الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | خالد بن سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المهلكات |
الزنا فاحشة لا يتخيل شناعتها إلا من تصور أن من يزني به حرمه، وأن من يهتك عرضه هو أمه أو أخته أو زوجه. فليتصور من سوَّلت له نفسه ذلك ليكفَّ عن خطيئته، فما أشد البلاء، وما أقساه، والزنا دَيْن ربما كان قصاصه من المال، وبشر الزاني بالفقر ولو بعد حين، وربما كان القصاص بالفضيحة، وربما كان القصاص من عرض الرجل الزاني...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أكرم المؤمن بضياء الإيمان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز من أطاعه وأذل من أبى بالعصيان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم.. عباد الله - ونفسي المقصرة - بتقوى الله وطاعته، كما أمر بذلك الله جل في علاه فقال سبحانه: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء: 9- 10].
أيها الأحبة في الله: ما أروع الغيرة حينما تنطلق من قلب مؤمن صادق، وتكون على محارم الله، لا تنظر إلى مصلحة شخصية، ولا تتراجع من أجل مجاملة اجتماعية، بل تنتظم في مدارها الصحيح لتصل إلى هدفها العلوي في إنكار المنكر، والأمر المعروف وإقراره ونشره والثناء عليه؛ بعلم وحكمة، لا بجهل وتهور، مستظلة بدالية النبوة، التي من قطافها قولُ الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ" (رواه الإمام مسلم).
قصدني أحد الغيورين، حينما شاهد فتاة في سن البلوغ، قد نزعت حجابها، ووضعت عباءتها على كتفيها، ونشرت شعرها، ومشت بين شوارع حارتها مشية المختالة، المعجبة بشبابها، مستهترة بعواقب السفور الوخيمة على الستر والعفاف:
يا رحمتاه على الحيا | عصفت به هوج الرياح |
يا ويل كنز جمالها | من عين قرصان وقاح |
لقد نسيت هذه الفتاة ونسي أهلها أن النظر بريد الزنا، وأن السفور دعوة سافرة للفاحشة، وأن التبرج استعداد مبطن لذوي النفوس الجشعة، الباحثة كالذئاب الجائعة عن لحوم مكشوفة، وأن الله تعالى -صيانة لعرض المسلمة- نهاها حتى عن إلانة الكلام للأجانب فقال: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) [الأحزاب: 32].
نسيت ونسي أهلها أن من أهمل زرعه رعت فيه السائمة، وأن من ترك الحبل فقد القارب وما حمل، وأن جرح العرض لا يكف عن النزيف أبدًا.
نسيت ونسي أهلها أن أكثر الوقائع المروعة بدأت من خلو الجو للمجرم، يرمي رقمًا، يخدع به أنوثتها، ويدنو به من خيمتها، ويصبر ويصبر حتى يدوس أرضها، ويصرع عفتها، ويذل عشيرتها، يتتبع خطوات الشيطان خطوة خطوة حتى تصل مركبته إلى غايتها المؤقتة، وإلى لحظتها الرهيبة، التي يهتز لها عرش الرحمن، يتصور لها في البداية بشرًا سويًّا، ثم ملاكًا طاهرًا، فإذا وقعت في الفخ كشف لها عن رأس شيطان وأخلاق خنزير.
ذئب تراه مصليا | فإذا مررت به ركع |
يدعو وكل دعائه | ما للفريسة لا تقع |
فإذا الفريسة أوقعت | ذهب التنسك والورع |
أين هي من نساء:
يخبئن أطراف البنان من التقى | ويخرجن جنح الليل مختمرات |
إن مما نفرط فيه حقا أننا نبالغ في امتداد سن الطفولة عند أولادنا، فالذكور يشبون بيننا، ومع ذلك يظلون يدخلون على النساء الأجنبيات عنهم من الأقارب أو الجيران؛ لأنهم في نظرنا أطفال، وهم في الواقع قد تيقظت في نفوسهم طبائع الكبار، وظهروا على عورات النساء، وصاروا يميزون بين جماليات النساء.
وكذلك الفتيات فالفتاة تظل طفلة في نظر أهلها حتى وإن بلغت مبلغ النساء، وتفتحت محاسنها، وصارت تلفت أنظار الرجال. وتلك مسألة تتحكم في تقديرها التقوى والخوف من الله، والعقل والحكمة والنظر في العواقب، لا عواطف الأبوة والأمومة الطاغية، التي تفشل عادة في تقدير العواقب إذا كان الأمر يتعلق بحرمان البنت أو الولد من بعض ما يحبون.
في حادثة أخرى أخبرني أحدهم أنه اكتشف علاقة خادمته بأجنبي عنها، فبادرته: صارحني هل هي التي تلقي النفايات خارج المنزل؟ فقال: نعم، وذلك خطؤنا، أقول: وذلك خطأ كثيرين، يضعون الطعم للخبثاء أمام دورهم ثم يتأوهون، وإذا دنا من الحمى خبيث فيا مرارة غرسه! ويا خبث جَنْيِه! على أهل الدار كلهم، وليس على الخادمة وحدها، التي تكون هي أول الطريق للهدف.. فهل يعي الذي يمنحون الحرية كاملة لنسائهم وخادماتهم في الخروج وحدهن دون رقيب ولا حسيب عواقب الخسران الوبيل؟!
نعم: قد يبتلى الإنسان بما ليس له فيه يد، ولكنَّ كثيرًا من الابتلاءات التي نُصاب بها هي من صنع أيدينا (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
إن ديننا حينما حرّم على نسائنا أن يكشفن شيئًا من أجسادهن للأجانب، إنما كان يريد الحفاظ عليهن من نظرة خائنة قد تؤدي إلى فساد لا نهاية له، تفقد معه المرأة عفتها، ويهون عليها بعد ذلك فقد كل شيء.
كل الحوادث مبدؤها من النظر | ومعظم النار من مستصغر الشرر |
ونحن في زمن فشا فيه الفساد حتى كاد أن يكون معروفًا، ليس في بلاد الكفر وحدها، بل في كثير من بلاد الإسلام. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا" (رواه البخاري).
فلا ألوم من يتضرم قلبه غيرةً وحرقة مما يرى من تسارع النار في هشيم الأعراض، ولا ألوم من توقد الإحساس في قلبه، فصار يخاف على عرضه ولو من نظرة بعيدة، أو مهاتفة خاطئة، فالأمر أكبر من أن يستهين به العقلاء الأكياس.
لقد حفظ الإسلام الأعراض، وحافظ على الأنساب من الاختلاط والضياع، ومن أجل ذلك حرم الزنا، وعدَّه من كبائر الذنوب ومهلكات الخطايا، بل إنه حرّم مقدمات الزنا من النظرة الآثمة والكلمة الخادعة والحركة الماجنة والخلوة المحرمة، وكل ما كان مؤديًا إلى ارتكاب الفاحشة، قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) [الإسراء: 32]. والفاحشة هي الذنب الذي تناهى قبحه وفحش أمره.
ولذلك جعل الله –تعالى- عقوبة الزاني أشنع العقوبات في الحدود، قال –تعالى-: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور: 2].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" (رواه مسلم).
الزنا فاحشة لا يتخيل شناعتها إلا من تصور أن من يزني به حرمه، وأن من يهتك عرضه هو أمه أو أخته أو زوجه. فليتصور من سوَّلت له نفسه ذلك ليكفَّ عن خطيئته، فما أشد البلاء، وما أقساه، والزنا دين ربما كان قصاصه من المال، وبشر الزاني بالفقر ولو بعد حين، وربما كان القصاص بالفضيحة، وربما كان القصاص من عرض الرجل الزاني:
إن الزنا دين إذا أقرضته | كان الوفا من أهل بيتك فاعلم |
فليتق الله رجال ونساء أذلوا أعز ما يملكون لدواعي الفتنة والرذيلة؛ استجابةً لنزوة طارئة، وشهوة عابرة. قال النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ وَمُضِلَّاتِ الْهَوَى" (رواه الإمام أحمد وصححه الألباني).
والواقع يقول: إن الوقوع في الزنا لا يحدث فجأة، بل هو كما قال الصادق المصدوق -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث: "فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ " (رواه البخاري). فمن يطلق لنظره العنان يرى ما يشتهي، فالنتيجة أن يصدق الفرج ذلك إلا أن يعصمه الله.
ومن جاس بلاد العهر والفجور، واعتاد السفر إلى مواطن الفساد والمجون، وجالس أهل الخنا ورفقة السوء، وفتن بمجلات الخلاعة، وأفلام الجنس، وبرامج الصداقة.. فلا يلومن إلا نفسه حين تزل به قدم المروءة في وحل الدناءة والفاحشة.
لقد بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الزاني يُنزع منه الإيمان المطلق حال زناه، فقال: "لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ" (رواه الشيخان).
وفي حديث آخر بيَّن الرَسُولُ -صلى الله عليه وسلم- بأنه "إِذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلَّةِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَادَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ"، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا خَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِسْلَامِ.
وهو سبب دخول النار، ففيم صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ: " الْفَمُ وَالْفَرْجُ" (رواه الترمذي وحسنه الألباني).
وروى البخاري -رحمه الله- في حديث الرؤيا "أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى في المنام ثَقْبا مِثْلَ التَّنُّورِ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فسأل عنهم فأخبر أنهم: الزُّنَاةُ".
وأعظم الزنا زنا المحارم، الذي بدأ في الظهور في مجتمعات المسلمين بعد أن زيَّن لهم ذلك في فضائيات الفجور والفساد، في غفلة عن أعين الأولياء، علمه من علمه وجهله من جهله. والزنا بزوجة الجار الذي يعد من أعظم الذنوب؛ كما روى البخاري -رحمه الله-.
والزنا سبب لنزول عقوبة الله العامة على الناس، قال النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ، قَالَ: وَقَالَ مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ -عز وجل-" (رواه الإمام أحمد).
وروى ابن ماجه في بَاب (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونٌَ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ؛ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ" (والحديث صححه الألباني).
وما من ذنب إلا وللمسلم منه مخرج إذا نزع عنه، وتركه لله، وعزم على عدم الرجوع إليه، يقول الله –تعالى-: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) [الفرقان: 68- 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أهل الثناء والحمد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أسباب الحصول على أعظم الدرجات: العفاف عن فاحشة الزنا، وهو ما ورد في الحديث الصحيح الذي عدد سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. قال: "وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ" (رواه البخاري).
لقد حظر الإسلام اتباع الشهوات، والإغراق في طلبها، وأمر بالعفة وحث عليها، وأغلق جميع الأبواب التي قد تتسلل منها الفاحشة في الظلماء، فتفسد القلوب، وتضعف الهمم، وتخرب المجتمعات والأمم، قال –تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) [المؤمنون: 1- 10].
وقال –سبحانه-: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور: 33]، والعفة: كفّ النفس عن الشهوات المحرمة، محبة لله -عز وجل-، واستجابة لأمره، وطلبًا للأجر والمثوبة منه سبحانه.
والعفاف سبب للقرب من الله، والحصول على ولايته، وإجابة الدعاء عنده، روى البخاري -رحمه الله- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "خَرَجَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ فَأَصَابَهُمُ الْمَطَرُ فَدَخَلُوا فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، قَالَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ادْعُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ، أقول: فدعا الأول بدعوة، ثم َقَالَ الثاني: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّي كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ، فَقَالَتْ لَا تَنَالُ ذَلِكَ مِنْهَا حَتَّى تُعْطِيَهَا مِائَةَ دِينَارٍ فَسَعَيْتُ فِيهَا حَتَّى جَمَعْتُهَا فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتِ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ فَقُمْتُ وَتَرَكْتُهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً، قَالَ: فَفَرَجَ عَنْهُمُ الثُّلُثَيْنِ.. ثم قال -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ذكر دعوة الثالث: فَكُشِفَ عَنْهُمْ".
ومن مفاسد الزنا: نشوء فئة في المجتمع لا يعرف لها نسب، ولا تنتمي إلى أم أو لأب، فأولاد الزنا لا ينسبون إلى آبائهم حتى وإن عرفوا، ولا يرثون منهم، قَالَ -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي وابن ماجه: " أَيُّمَا رَجُلٍ عَاهَرَ بِحُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ فَالْوَلَدُ وَلَدُ زِنَا لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ ".
ومن مفاسده سواد الوجه وظلمته مما يعلوه من الكآبة والمقت، وظلمة القلب وطمس نوره.
ومن مفاسده ما يحدث في المجتمع من وبال إذا انتشر أمره..
نقلت إحدى صحفنا المحلية عن إحدى وكالات الأنباء أن نصف حالات الحمل في دولة غربية كبيرة غير مرغوب فيها، و40 ألف شخص يصابون بفيروس الإيدز سنويًّا، مقابل 1.4 آلاف طفل يتعرضون لاعتداءات جنسية، و22% من النساء يغتصبن. هذه الإحصاءات دعت السلطات الطبية هناك إلى المطالبة بتربية جنسية أفضل للشباب، فيما ذكر المتحدث باسم الرئيس أنه لا يزال يرى ويؤكد أن العفة والتربية الداعية إليها هي أفضل الطرق لمكافحة الإيدز وحالات الحمل العرضية.
بعد قراءة هذا الخبر خفقت دمائي في ضروب شتى؛ حتى وجدتني أضع يدي على قلبي خشية على بني أمتي من العدوى، وأنا أرى هذه الفتن والإغراءات تحوم حول شبابها وشاباتها؛ وقنوات البث الإعلامي الخارجي بأنواعها الورقية والأثيرية أصبح شغلها الشاغل تمرير كل ما من شأنه التمهيد للوصول إلى هذا المستوى الدنيء من الفاحشة، واختلاط المياه، واختلاج الدماء، كل ذلك في سيل من الاعتراضات والتأففات الاجتماعية الخافتة، المتزامنة مع غفلة غفلاء من مؤسسة (الأسرة) التي هي حجر الأساس في المجتمع، التي لا تزال تسترسل في الاستقبال الدائم لكل مادة إعلامية بصرف النظر عن آثارها المستقبلية على الدين والفضيلة وبناء الأمة واستقلال هويتها.
ويا لشموخي الجريح حين أرى كل ذلك وأنا أعلم أن العفة التي يبحث عنها أولئك هي من صميم معتقدي، ومن سيماء مجتمعي المحافظ.
فمعتقدي هو الذي حرم حتى النظر إلى الأجنبيات؛ ليقيم سياجًا من الأمن الاجتماعي على الأعراض والبيوتات وكرامتها، وليقطع جذور البداية، ليأمن النهاية، وكشف الواقع أن إفساح المجال أمام النظر يفسح المجال أمام العمل، وإن التأمل في نداء الله تعالى للرجال: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53]، ونداءه سبحانه للنساء: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) [الأحزاب: 32].
يشعر بأن الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير قد كشف لنا خبيئات نفوسنا، وأننا - أي البشر - نتأثر برؤية الجمال، وتهزنا طرواة الصوت، فكيف بجنون الاختلاط الذي أوقع الغرب في شبكة عنكبوتية كلما رفع رجله من طرف منها اشتبكت بطرف آخر.
وأما مجتمعي فهو المجتمع الذي يحافظ الفرد فيه على عرضه أعظم من محافظته على حياته وماله:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه | لا خير - والله - بعد العرض في المال |
هو الذي يغار من التفاتة الرجال إلى نسائه وهن متشحات بالسواد من الرأس إلى أخمص القدم، هو الذي يبني بيوته بشرط الستر، ويقيم أعراسه بشرط الحشمة، ويقيم علاقاته بشرط النزاهة.
هو الذي يقول الرجل فيه:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي | حتى يواري جارتي مأواها |
وأما المرأة فهي التي كانت تغطي وجهها رغبة من داخلها، حتى إذا:
سقط النصيف ولم ترد | إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد |
إن التربية الجنسية التي ينادي بها أولئك تكتنزها آيات يوسف والنور والأحزاب، وتفصلها السنة في سياقات مباشرة تبدأ بـ"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" (متفق عليه)، وسياقات أخرى قصصية غاية في الروعة والتأثير.
فيا أيها الشباب الأطهار: إياكم أن تصغوا إلى نواقيس الرذيلة حين تدق أبواب أحاسيسكم، بل انظروا إلى عواقب الخزي والحسرات في الدنيا ويوم تعرض الصفحات، ويا أيها الفتيات احذرن أن تكن ضحية اللحظات المسعورة، التي ليس بعدها غير الندم، وربما العار والنار.
أسأل الله تعالى أن يحمينا جميعًا من مضلات الهوى، وأن ينقذنا من شراك الشيطان وحزبه إنه سميع الدعاء.