السيد
كلمة (السيد) في اللغة صيغة مبالغة من السيادة أو السُّؤْدَد،...
العربية
المؤلف | فيصل بن جميل غزاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | صلاة العيدين - التوحيد |
ومما يُلحَظُ في حجَّته - صلى الله عليه وسلم -: الإكثار مِن الدُّعاء في مواقِف ومواضِع كثيرة؛ فقد دعَا ربَّه في الطواف، وعند الوقوف على الصفا والمروة، وأطالَ الدُّعاء بعرفة وفي مُزدلِفة، وأيام التشريق بعد رميِ الجَمرَتين الصُّغرى والوُسطى..
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي شرعَ العبادات، وجعلَ لها حِكَمًا بليغات، وغاياتٍ سامِيات، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له واهِبُ العطايا والهِبات، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أكمَلُ الخَلق وخَيرُ البريَّات، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِهِ أُولِي الفضلِ والمكرُمات.
أما بعد: فاتَّقُوا اللهَ -عباد الله-، واعلَمُوا أن للحجِّ أسرارًا سامِية، وحِكَمًا عالِية، ومقاصِد مُنِيفَة، فليس عبَثًا أن يجعلَه الله أحدَ أركان الإسلام التي لا يقُومُ إلا بها، وليس عبَثًا أن يجتمِعَ المُسلمون لأداء هذه الفريضَةِ في مكانٍ واحدٍ، وزمانٍ واحدٍ.
لو تأمَّلنا في ذلك لوجَدناه دليلًا واضِحًا على إرادة وحدةِ المُسلمين، وأنهم كالجسَدِ الواحِد.
معاشِر المُسلمين: إن للحجِّ دُروسًا عظيمةً، منها: تذكيرُ الأمة بأن أعظمَ ما يجِبُ أن تهتَمَّ به تحقِيقُ التوحيدِ لله، وتحقيقُ الغايةِ القُصوَى في الخُضوعِ والتذلُّلِ له، ولذا فقد لبَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد: "لبَّيكَ اللهم لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شريكَ لك لبَّيكَ"، وكذلك الأنبِياء مِن قبلُ، كانُوا يَلهَجُون بالتوحيدِ ويُلبُّون بهِ.
وبِناءً عليه كان لِزامًا أن يكون المُسلمُ على دِرايةٍ عظيمةٍ بهذا المعنى في حياتِه كلِّها، مُراعِيًا له في كل جانِبٍ، فلا يسألُ إلا الله، ولا يستغِيثُ إلا بالله، ولا يَنذرُ إلا لله، ولا يذبَحُ لغيرِ الله، ولا يتوكَّلُ إلا على الله، ولا يطلُبُ المدَدَ والعَونَ والنَّصرَ إلا مِن الله، مُستيقِنًا أنه هو المُتصرِّفُ في شُؤون الكَون؛ فالله وحدَه هو الخالِقُ والرَّازِقُ، والمُحيِي والمُميت، والمُبدِئُ والمُعيد، والنَّافِعُ والضَّارُّ.
كما أن الأساسَ الراسِخَ لاستِقرار حياةِ الأمة هو تحقيقُ التوحيد لله - جلَّ وعلا - في مناحِي الحياةِ كلِّها، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
ومما يُلحَظُ في حجَّته -صلى الله عليه وسلم-: الإكثار مِن الدُّعاء في مواقِف ومواضِع كثيرة؛ فقد دعَا ربَّه في الطواف، وعند الوقوف على الصفا والمروة، وأطالَ الدُّعاء بعرفة وفي مُزدلِفة، وأيام التشريق بعد رميِ الجَمرَتين الصُّغرى والوُسطى.
وكان كثيرَ التضرُّع والمُناجاةِ لله وحده، ولم يَدْعُ معه غيرَه، ولم يَدْعُ نبيًّا ولا ولِيًّا، ولا ميِّتًا ولا وثَنًا، ولا حجَرًا ولا شَجَرًا، بل توجَّه لله وحدَه في الدُّعاء؛ لأن الدعاءَ هو العِبادة.
فعلَّمَنا -صلى الله عليه وسلم- ألا نصرِفَه لغيرِ الله، ولا نصرِفَ شيئًا مِن العبادة لغيرِه -سبحانه-.
ومما يُعلِّمُنا الحجُّ: أن يحرِصَ المرءُ على إخلاصِ العملِ لله، قال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196]، وامتَثَلَ ذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عند إحرامِه فقال: "اللهم حجَّة لا رِياءَ فيها ولا سُمعَة".
فيطلُبُ الحاجُّ بعملِه وجهَ الله، لا يُسمِّعُ الناسَ بعملِه ولا يُرائِي، ولا يرتَكِبُ ما يُنافِي الإخلاص، فيطلُبُ أن تُلتقَطَ له الصُّور أثناءَ حجِّه يُريدُ أن يرَى الناسُ عملَه وهو مُحرِمٌ، ويُحبُّ عند رُجوعِه إلى بلدِه أن يُتلقَّى بالترحابِ ويُقال له: "الحاجُّ فُلان".
أيها المُسلمون .. ويا حُجَّاج بيت الله: ومما يُعلِّمُنا الحجُّ: أن يتعلَّم العقلُ تمامَ التسليم والإذعان للأحكام الربَّانيَّة، بإثباتِ عَجزِه وعدم مقدرتِه على تفسيرِ أمورٍ يفعَلُها ولا يعلَمُ سرَّها الحقيقيَّ، ولا يعقِلُ حِكمةً ظاهرةً، ولا معنًى واضِحًا لها؛ كرميِ الجِمار، والتردُّد بين الصَّفا والمروَة، والمبيتِ بمُزدلِفة تحت السماء، وغيرِ ذلك.
وإن ذُكِرَت بعضُ الحِكَم في تلك الأعمال، إلا أن الأمرَ يبقَى على أنها أعمالٌ تعبُّديَّة يُؤدِّيها المرءُ بطواعيَّةٍ وانقِيادٍ، ومطلُوبٌ مِن المُسلم أن يعيشَ كما أمَرَه الله، مخلُوقًا مُطيعًا مُخبِتًا، واقِفًا عند حُدودِ الله التي شرَعَها له، فإن ظهرَ له السرُّ والحِكمةُ مِن التشريعِ أخذَ به، وإلا فهو مُهيِّئٌ نفسَه للإذعانِ والمُبادرَةِ لأمرِ ربِّه دون تردُّدٍ، ولا تشكُّكٍ، ولا مِراءٍ.
أقولُ هذا القَول، وأستغفِرُ الله الجليلَ لي ولكم، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، جعلَ القَبُولَ لمَن أطاعَه واتَّقاه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له مُجيبُ دعوةِ مَن دعاه، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا مُحمدًا عبدُه ورسولُه ومُصطفاه، صلَّى الله عليه وآلِهِ وصحبِه ومَن والاه.
أما بعد: فقد كانت ألسِنةُ الحَجِيجِ تلهَجُ بـ "لبَّيكَ اللهم لبَّيكَ"، والمعنى: استِجابةً بعد استِجابةٍ، وطاعةً بعد طاعةٍ.
فعلَّمَنا الحجُّ أن نستَجِيبَ لخالِقِنا، ونهرَعَ إليه، ونُبادِرَ بطاعته، ونكُفَّ عن معاصِيه طِيلةَ حياتِنا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24].
عباد الله: لقد أرشدَ الله تعالى في معرِضِ آياتِ الحجِّ للتزوُّد مِن التقوى، فقال: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].
وختَمَ الله -سبحانه- أحكامَ الحجِّ بقولِه: (لِمَنِ اتَّقَى) [البقرة: 203]، فالله - سبحانه وتعالى - جعل هذه الأحكامَ التي شرَعَها يقومُ بها العبدُ وهو مُتَّقٍ لله - عزَّ وجل -، فيُؤدِّيها المرءُ كما أمَرَ الله - عزَّ وجل -.
ومما هو معلُومٌ أن الحجَّ لن يكون مبرُورًا إلا إذا امتنَعَ المُسلم عن المحظُورات، وحافظَ على حجِّه، فلم يرفُث ولم يفسُق، وألزَمَ نفسَه التقوَى، وجاهَدَها وكبَحَ جِماحَها. وهذا يُعلِّمُ المرءَ التعوُّدَ على الخِصال الحميدة، والآداب المرعيَّة، حتى تكون له سجِيَّة.
فعن ابن مسعُودٍ - رضي الله عنه - قال: "تعوَّدُوا الخيرَ؛ فإنما الخَيرُ في العادة".
فإذا ألزَمَ نفسَه بها خرَجَ بعد ذلك وقد راضَ نفسَه، وتوَّجَها بتاجِ الأخلاق، وزيَّنَها وحلَّاها بذلك، فيتجنَّبُ رذائِلَ الأخلاق؛ كالسِّباب، والسُّخرية، والفُحش، واللَّعن، والطَّعن، والغِيبة، والنميمة، والكذبِ، والغِشِّ، والخِيانة، وغيرِها.
وفي المُقابِل يُراعِي أُخُوَّة الإسلام التي تطلُبُ مِن المُسلم العطفَ والرحمةَ، والشَّفقَةَ والمُساعَدةَ والمُواساة، ويتحلَّى بأخلاقِ المُؤمنين؛ كالحِلمِ، والصَّبر، والعفوِ، والتواضُع، والسَّخاء، وغيرِ ذلك. وهكذا يعيشُ المُسلمُ في الحجِّ في هذه المدرسة التي يتلقَّى فيها أنواعًا مُختلِفةً مِن الدروس العلمية والعملية.
عباد الله: صلُّوا وسلِّموا على خيرِ البريَّات؛ امتِثالًا لأمرِ الله تعالى في مُحكَم الآيات: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ وآلِهِ وصحبِه.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وانصُر عبادَك المُؤمنين، وأذِلَّ الكفرَ والكافِرين.
اللهم آمِنَّا في الأوطانِ والدُّور، وأصلِح الأئمةَ ووُلاةَ الأمور، ووفِّق وليَّ أمرِنا لهُداك، والعمل برِضاك.
اللهم اغفِر للمُسلمين والمُسلمات، والمُؤمنين والمُؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم اجعَل حجَّ قاصِدِي البيت الحرام حجًّا مبرُورًا، وسعيًا مشكُورًا، وذنبًا مغفُورًا يا رب العالمين، اللهم رُدَّهم إلى أهلِيهم سالِمين غانِمين يا رب العالمين.