الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
حديثنا اليوم يدور حول بدهية لا بد لكل واحد منا أن يأخذها في الاعتبار، وهي احترام هذه النعمة، وأداء حقها، احترام العقل، مراعاة حرمته، وإعطاؤه مكانته، وتوقيره؛ لكونه يمثل قيمة رئيسة في الإنسان، هذا واجب من الواجبات، كلما ازداد رجحان العقل ازدادت قيمة الإنسان، واقترب من كمال الشخصية.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من نعم الله العظيمة على الإنسان نعمة العقل، فرق الله به بين الإنسان وبين كثير من مخلوقاته، وذم القرآن من عطل ملكات عقله، فقال -سبحانه-: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) [الأنفال:22].
وجعل الإسلام العقل شرطا من شروط التكليف؛ فإن التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال، والمختل عقليا، والكبير الذي أصابه الخرف، والطفل الصغير، أولئك كلهم لا يستوعبون الأحكام، ولا يدركون المسؤولية؛ فغير العاقل غير مكلف.
وحرص الإسلام على حفظ العقل، فجعله إحدى الضرورات الرئيسة التي تدور مقاصد الشريعة على حفظها، فمكانة العقل عند الله -تعالى- تكشف عظم هذه النعمة.
معاشر الإخوة: حديثنا اليوم يدور حول بدهية لا بد لكل واحد منا أن يأخذها في الاعتبار، وهي احترام هذه النعمة، وأداء حقها، احترام العقل، مراعاة حرمته، وإعطاؤه مكانته، وتوقيره؛ لكونه يمثل قيمة رئيسة في الإنسان، هذا واجب من الواجبات، كلما ازداد رجحان العقل ازدادت قيمة الإنسان، واقترب من كمال الشخصية.
ولذلك؛ وضع القرآن العقل شرطا وميزة لتدبر الآيات والاتعاظ بها في أكثر من آية، قال -سبحانه-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد:4]، والعكس صحيح، كلما خف العقل كلما قلت قيمة الإنسان بين الناس، وكلما قل عقله ابتعد عن الكمال في شخصيته وأصبح محل الذم، كما في قوله -تعالى-: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ) [المائدة:58].
أيها الإخوة المسلمون: كيف يحترم الإنسان عقله؟ وكيف يحترم عقول الناس؟ وكيف يحترم عقلُه هو عقولَ الناس؟.
أما احترام الإنسان عقله فإن من مراعاة حرمة العقل وإعطائه مكانته الحذر من المؤثرات التي تحرف العقل عن سلامة الحكم على الأشياء، وكذلك المؤثرات التي تبعده عن الإنصاف والعدل، والمؤثرات عديدة، من أشهرها وأخطرها العصبية؛ فالعصبية أو التعصب مثلا من الآفات التي تصيب الإنسان بمرض العناد، والجدل العقيم، فلا يمكن للمتعصب أن يرى الواقع على حقيقته؛ لأنه لا يرى الحقيقة، وإنما يرى ما تميل إليه نفسه، لفعل تعصبه لما تميل إليه تلك النفس.
التعصب يُعمي صاحبه عن الحق حتى لو كان الحق ظاهرا للعيان لا يمكن جحوده، وبالتالي لا يمكن أن تكون أحكامه وفق مقتضى الحكمة والصواب؛ ولذلك سمي الباب الثامن من نظام المرافعات: [باب تنحي القضاة وردهم عن الحكم]، والمراد بهذا الباب بيان الحالات التي يلزم القاضي فيها أن يتنحى عن النظر في القضية والحالات التي يسوغ فيها للقاضي من تلقاء نفسه أن يتنحى عن التصدي لقضية ما ويحيلها لقاض آخر، جاء ضمن الأسباب المسوغة للتنحي وردّ النظر في قضيةٍ أن يكون للقاضي بها علاقة، أو يتأثر أو يستفيد بالحكم فيها لوجود علاقة أو رابطة مع أحد الخصوم، إذ إن من الواجب على القاضي أن يكون منصفا بين الطرفين، ساعيا إلى إحقاق الحق والفصل في الخصومة، دون ميل لأحد الطرفين.
والنفس البشرية مجبولة على الضعف والطمع إلا من رحم الله -تعالى-، ولا أحد من البشر سوى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يملك العصمة في تصرفاته، أو يستطيع التجرد من مشاعر الميل والود لأحد الأطراف ممن تربطه بهم علاقة، يسرّه ما يسرهم ويحزنه ما يحزنهم.
بل قد جاء في المادة التسعين من هذا النظام القضائي بيان الأسباب التي يمنع القاضي بسببها من النظر في الدعوى منعا باتا، من تلك الأسباب: وجود العلاقة الزوجية أو المصاهرة أو القرابة القريبة بين القاضي وأحد الخصوم، أو وجود مصلحة مضمونة للقاضي في القضية، ونحو ذلك من الأسباب.
الحاصل أن العصبية لشيء ما من المؤثرات على استيعاب العقل لخطورة الحيف، وبالتالي بما لا يقبله العقل الراشد، ولا يرضى به، لكن هذا المؤثر جعله يرضى به، أو أفقده الحس بخطورة الحيف والظلم.
ومن المؤثرات العاطفة المفرطة، تلك التي تجعل الإنسان يحب أو يكره بشكل جارف يؤثر على العقل ويفقده سلامة التصور وسداد الرأي؛ ولذلك قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8]، أي: لا يحملكم بغض قوم على ألا تعدلوا.
وهناك مؤثرات أخرى كذلك، كالكبر الذي يفسد رجاحة العقل، فيرفض بسببه الحق، وكالغضب الشديد الذي يجعل الإنسان يخرج عن وعيه، ويفعل القبيح، ويقول الفاحش من القول؛ ولو كان في أموره العادية خارجا من ذلك الغضب لما قال هذا الكلام الفاحش، ولما تصرف ذلك التصرف القبيح.
ومن علامات احترام الإنسان عقلَه ترك الانجرار خلف ما تمتلئ به الدنيا اليوم من الأكاذيب والتلفيقات والتدليس، فيحذر من غريب الأقوال، ويحاول أن يتأمل ويفكر؛ فلا يستعجل في قبول ما يقال إلا بعد تمحيص الخبر أو القول، من حيث فحوى القول، ومن حيث مصدره، ففي عالم اليوم من التزييف والتدليس ما لا حصر له.
ومن علامات احترام الإنسان عقله ألا يتدخل فيما ليس من تخصصه، وليس له فيه علم راسخ، ولا معرفة ولا خبرة، ولا حتى دليل. قال -تعالى- مقبحا من تلك صفته: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) [الحج:8]، بغير علم ولا دليل ولا رشاد، بعض الناس يحسب أنه يفهم وهو لا يفهم أنه لا يفهم، وبعض الناس يحسب أنه يعلم وهو لا يعلم أنه لا يعلم، فيجادل، تراه يخوض فيما لا ليس له به علم ولا دراية، فيضحك الناس عليه إما أمامه أو من وراء ظهره!.
وفي هذا قلة احترام منه لعقله، يخوض فيما ليس له شأن ولا علم ولا خبرة ولا دراية، يخوض ويتكلم، يقول الإمام ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، ورب كلمة قالت لصاحبها دعني فأصر على إخراجها فأسقطته من عيون الناس".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كيف يحترم الإنسان عقول الناس؟ الناس -أيها الإخوة- يتفاوتون في قدرتهم على الفهم، وقد وزع الله الأرزاق على خلقه في كل شيء، حتى في العقل، حتى في القدرة على الفهم؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "نضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فوَعَاها"، فيه: بعضهم لا يعيها، قال: "فوعاها، وبلغها من لم يسمعها، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" رواه أبو داود.
ولذلك؛ قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وهذا مع أن الناس متباينون في نفس عقلهم الأشياء من بين كامل أو ناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك".
وبما أن الناس متفاوتون في عقولهم وأفهامهم؛ فإن من احترام العقول ألا يتكبر صاحب العلم عليها بالعلم، فيأتي بما لا تبلغه عقولهم، لا يكلفهم، أي: تلك العقول، بما لا تقدر على فهمه واستيعابه، فالكلام مع العامة البسطاء ليس كالكلام مع العلماء والمثقفين؛ وكذلك الكلام مع أهل العلم ليس كالكلام مع غيرهم، فكلٌّ ميسّر لما خلق له، وكلٌّ له ما يناسبه ويليق به؛ ولذلك قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما أنت بمحدثٍ قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". فلكل مقام مقال، هذا من جهة.
وفي الوجه المقابل؛ فإن من احترام العقول أن تخاطب بالمنطق، وألا يظن بالعقول الدون، وأن كل شيء يمكن أن ينطلي عليها، كما ظن المنافقون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله -تعالى-: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:61].
يقولون: هو أذن، يعني: يصدق كل شيء، يؤذون النبي، وهو ليس كذلك -صلى الله عليه وسلم-؛ بل كان يدرك كذبهم وخداعهم، ولكن الله أمره أن يعاملهم بظواهرهم ويقبل منهم ما يقولون.
ولهذا قال الساخر لأمثال هؤلاء الكذابين: إذا كذبتم فعلى أقل حال أتقنوا الكذب، واجعلوه كذبا معقولا، احترموا عقولنا، فلسنا بهائم! هكذا يقول الساخر.
أيها الإخوة: ينبغي مراعاة مدى احترامنا لعقولنا، فالذي يسارع إلى تصديق التوافه من الأقوال وخرافات النصب والتدليس ويتأثر فيها ويبني عليها معلوماته عليه أن يفكر قليلا، يفكر في وضعه، وأن يحترم عقله.
وعلينا -كذلك- أن نتنبه لمن لا يحترم عقولنا؛ فإن الله -تعالى- استودعنا العقول ليكرمنا ويرفع من شأننا بها، لا ليخفضنا بها، هذا هو حفظ نعمة العقل باحترامه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين... وأذل الشرك والمشركين...