الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
فراق الروح للجسد، فراق الأهل والأحبة، فراق ميدان السباق، فراق يلف بعده ذلكم الجسد المنعم الذي كان يخدم صباحاً ومساءً من خارجه بالنظافة، ومن داخله بالطعام والشراب والأدوية، فيوضع في حفرة على مقاسه تبدو موحشة في ظاهرها، أما واقعها فهي إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار ..
الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأتوكل على الحي الذي لا يموت، وأسبح بحمده، وكفى به بذنوب عباده خبيراً.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المنزل عليه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر:30-31] صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون: أذكركم وأعظكم بما ذكر الله تعالى ووعظ به عباده وبما ذكرهم ووعظهم به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يقول الله -تبارك وتعالى-: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) [الرحمن:26-27]
ويقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185] ويقول: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8]
ويقول رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا ذكر هادم اللذات: الموت" رواه الترمذي. ويقول: "ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه" متفق عليه، ويقول: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" رواه البخاري.
عباد الله: إن ما وعظت به هذه الآيات، وهذه الأحاديث وما في معناها مما توقن به اعتقاداً ونشاهده عياناً في واقع حياتنا.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
إن ذلكم ليذكر كلاًّ منا أنه يوماً ما؛ محل تأويل هذه النصوص تأويل قول الله: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) [قّ:19] وقوله: (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) [القيامة:28]
فراق الروح للجسد، فراق الأهل والأحبة، فراق ميدان السباق، فراق يلف بعده ذلكم الجسد المنعم الذي كان يخدم صباحاً ومساءً من خارجه بالنظافة، ومن داخله بالطعام والشراب والأدوية، فيوضع في حفرة على مقاسه تبدو موحشة في ظاهرها، أما واقعها فهي إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
فليتذكر المسلم الطامع في نجاة نفسه وسعادتها، ووصل ما كان من طيب محياها بطيب مماتها؛ أن هذه المرحلة مرحلة الدنيا، أو مرحلة القبر الذي سيصل إليها الذي هو أول منازل الآخرة.
إنها ليست نهاية المطاف، ولكنها بداية سيواجه الإنسان بعدها بما كان عليه في دنياه من خير أو شر، يقول -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق:6]
ويقول: (يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة:13]. ويقول: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة:7-8]. ويقول: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران:30] ويقول: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف:49]
ويقول رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله تبارك وتعالى: يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم؛ ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" رواه مسلم.
عباد الله: حسن الخاتمة، ولقاء الله سبحانه على ما أكرم به من دين الإسلام؛ مطلب وأمنية كل مسلم، فما من مسلم إلا ويحب ذلك، ويسعى له جهده.
ولقد كان ذلك محل اهتمام وعناية عباد الله الصالحين من سابقين ومقربين وسالفين ولاحقين، وموضوع وصيتهم لمن بعدهم، وفي مقدمتهم؛ رسل الله الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، فلقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يقول: "اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" رواه أحمد.
ويقول: "اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه واجعل أبرك أيامي يوم أن ألقاك" رواه الهيثمي. ويقول: "إنما الأعمال بالخواتيم" رواه البخاري.
يقول ذلك، وهو الموعود بحسن الخاتمة؛ شكراً لله، وتعليماً لأمته للعمل بمقتضاه، ويقول سبحانه عن خليله إبراهيم وحفيده يعقوب -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة:130-132]
ويقول سبحانه عن نبيه يوسف -عليه الصلاة والسلام-: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف:101]
ولكن ليعلم ويتذكر أن تمني ذلك أو محبته لا يكفي في طلبه، وطلبه يأتي بإذن الله في فعل الأسباب المهيئة له بلزوم شرع الله في كل أمر، في كل لحظة من لحظات الحياة والديمومة والثبات عليه.
وكلما كان ذلك إن تيسر بإرقاق نفس وإرهاف حس وخشوع قلب، كان أكمل لتوافيه المنية فيما لو وافته في لحظته تلك على طهر ونقاء وصفاء ومحبة للقاء الله، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
إخوة الإسلام: طلاب حسن الختام كتاب الله لنا جميعاً ذلك على طهر ونقاء وصفاء، اتقوا الله، واطلبوا ذلك بأسبابه بموجباته؛ بالبعد عما قد يحول بينكم وبينه، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل:5-10]
ويقول عليه الصلاة والسلام: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة" متفق عليه.
ليتق الله من هو متلبس بعمل ما يخالف شرع الله أن يظل مصراً عليه، فلربما نمى لديه وتسبب -لا قوة إلا بالله- في سوء خاتمته، فقد قال العلماء في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدوا للناس؛ حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" متفق عليه.
إن هذا النوع يكون لديه، وهو يعمل الخير بذور وأسس للشر في معتقد أو سلوك أو تعامل أو غير ذلك نمت به حتى كان فيه حتفه، وصلوات الله وسلامه على من أعطي الحكمة وجوامع الكلم القائل: "إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه" السلسلة الصحيحة.
الخطبة الثانية:
فاتقوا الله -إخوة الإيمان-: وأعيدوا النظر في صحائفكم، وماذا أودعتموها؟ واعملوا على ما يجعل السيئ منها يبدل حسناً، والحسن يضاعف أجره أضعافاً كثيرة؛ ما دمتم في فسحة ومهلة من أمركم، فإنه ما من نفس تموت إلا وتندم، تندم إن كانت محسنة ألا تكون ازدادت من الإحسان، وإن كانت مسيئة ألا تكون تخلصت قبل ذلك من سوئها ذلك.
جفت الأقلام، وطويت الصحف، وحيل بين المرء وبين ما يشتهي، رحماك اللهم يا رب، نسألك اللهم أن تعيننا على غمرات وسكرات الموت وما بعده، وأن تحسن منقلبنا إليك، نسألك اللهم أن تجعلنا نفرح بلقائك، وننعم بعطائك، ونصحب في دار الخلد أولياءك يا رب العالمين.