البحث

عبارات مقترحة:

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

متى يكون العلم نافعا؟

العربية

المؤلف عبد الرحمن بن صالح المحمود
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. العلم في منهاج الإسلام قسمان .
  2. العلم المادي في منهج الإسلام .
  3. مقياس العلم النافع والضار .
  4. وقفات ثلاث مع ثلاث آيات في كتاب الله .
  5. سمات العلوم النافعة .
  6. نداء لطلاب العلم والدارسين. .

اقتباس

يا طلاب العلم: أيها الدارسون: أيها المتعلمون في فنون المعرفة: إن الأمة الإسلامية تنتظر منكم علماً نافعاً يغنيها عن غيرها، تنتظر منكم أن تقوم هذه الأمة بعلمها الشرعي أولا، وبعلومها الأخرى، تنتظر منكم أن تتحول هذه الأمة إلى أمة كما عهدناها، رافعة الرأس، شامخة تقود الأمم ولا تقاد، ينظر إليها بعين الرفعة والمكانة، لا كما هو حالنا اليوم.. نعم.. لا يمكن أن تلتقي حضارة تبنى على الإيمان بالله واليوم الآخر وحضارة تقوم على الكفر بالله وعدم الإيمان بيوم الحساب.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فاعلموا أيها الإخوة أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الإخوة في الله: نستقبل في هذه الأيام موسم الحصاد العلمي لأبنائنا وبناتنا، ولإخواننا من طلاب العلم، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن بجعل ما يتعلمونه عونًا لهم على طاعة الله، وبصيرة لهم في دينهم، ورفعة وعزة لأمتهم الإسلامية، كما أسأله –تعالى- أن يوفّق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا جميعا التوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة.

أيها الإخوة في الله: إن طرائق الدراسة والامتحانات مما أطبقت عليه في الجملة الأمم كلها، مؤمنها وكافرها، فما الذي يميز أمة الإسلام في هذا العلم على مختلف فروعه وتخصصاته؟

يميزه أن العلم في منهاج الإسلام قسمان:

علم شرعي: عماده الكتاب والسنة، والإجماع وأقوال سلف الأمة، وهذا العلم مما تميزت به أمة الإسلام في كونه علم عقيدة وشريعة تشمل جميع نواحي الحياة، وفي كونه علمًا نابعًا من مصادر صحيحة ثابتة لا يتطرق إليها شك، ولم يدخلها تحريف ولا تأويل؛ لأن الذي جاء بها خاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولأن الله تكفل بحفظ كتابه، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يبلّغ البلاغ المبين، فبلّغ ووصلت إلينا سُنته -صلى الله عليه وسلم-، بجهود علماء الإسلام قديمًا وحديثًا.

وهذه العلوم التي تميزت بها أمة الإسلام: تختلف جذريًّا في هذا الباب عن علوم وكتب أهل الكتاب المحرفة، فضلاً عن علوم الأمم الأخرى الوثنية، هذا هو القسم الأول الذي تميزت به أمة الإسلام، وبه تفخر، وبه عزتها، وبتطبيقه والعمل به رفعتها، إنه العلم الشرعي الذي لا يكون لأحد من أهل الأرض مثله إلا أن يؤمن بما آمنوا به ويتبع سبيلهم.

أما القسم الثاني: فهو بقية العلوم غير الشرعية: العلوم المادية التي تتساوى فيها أمم الأرض متى ما أخذت بأسبابه، وهذه العلوم لابد فيها في منهاج الإسلام من أمرين حتى يتحول هذا العلم إلى علم مطلوب في أمة الإسلام:

أحدهما: أن يكون هذا العلم مفيدًا غير ضار، وبهذا تخرج العلوم الضارة أو العلوم التي لا فائدة منها على الإطلاق؛ لأن الانشغال بها مضيعة للوقت، إن لم تكن مضرة.

والقيد الثاني: النية الحسنة بالنسبة لطالبه، وهذه النية مرتبطة بحاجة الأمة الإسلامية وضروراتها، وما يؤدي إلى استغنائها عن غيرها من الأمم، وهذه النية هي التي تحول تلك العلوم إلى علوم نافعة ينال أصحابها بها أجرًا عن الله -تبارك وتعالى-، وبه تتحول جهودنا وما نبذله من أوقات ومال بهذه النية ولإغناء الأمة الإسلامية عن أن تحتاج إلى غيرها من الكفار، يتحول هذا العلم في منهاج الإسلام إلى علم مطلوب ينال عليه أصحابه أجرًا عن الله -تبارك وتعالى-.

 وكل من العلم الشرعي أو العلم المادي في منهج الإسلام لا بد فيه من نية صالحة، تقوم على الإخلاص لله سبحانه وتعالى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الذي علـمنا هذا، هو الذي بلغ الشريعة، وهو الذي قال لأصحـابه: "بلغوا عني ولو آية".

وهو الذي بعث البعوث ونشر الرايات المجاهدة في سبيل الله، الداعية إلى الله -تبارك وتعالى- لتشق طريقها في مشارق الأرض ومغاربها، وهو أيضًا الذي أمر أحد الصحابة -رضي الله عنه- أن يتعلم لغة غير اللغة العربية؛ لما احتاج إلى ذلك، وهو الذي استفاد من خبرة الفرس العسكرية في إحدى ميادين القتال، وليست هذه إلا نماذج، ولكن أحببت أن أشير إشارات والأمر في ذلك يطول.

أيها الإخوة في الله: ما مقياس العلم الذي ينفع والذي لا ينفع في منهاج القرآن؟ ومن أيها العلم الحديث الذي يوجد أكثره عند الكفار اليوم، ويظهر كثيرًا من شبابنا وبعض مثقفينا؟ ومتى يكون هذا العلم المادي نافعًا وصحيحًا؟ وقفات ثلاث مع ثلاث آيات في كتاب الله -تبارك وتعالى-.

الوقفة الأولى: قال الله -تبارك وتعالى- في سورة فاطر: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر:27-28].

ففي هاتين الآيتين بيان لقدرة الله -تعالى- وكماله فيها حيث يخلق الأشياء المتنوعة المختلفة، من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزل من السماء، فيُخرج به ثمرات مختلفا ألوانها، فيها الأحمر والأبيض والأصفر والأخضر والأسود، إلى بقية الألوان، كما خلق -تعالى- الجبال مختلفة الألوان، بل خلق الناس والدواب والأنعام مختلفي الألوان، وهذا خلق الله لا مدخل للبشر فيه، فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم قال -تعالى- في نهاية هذه الآية: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28].

قال ابن عباس:  "هم الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير"، وهذه إشارة من ابن عباس على أن العلم المادي إذا دلّ على الله -تبارك وتعالى-؛ يتحول هذا العلم إلى علم عبادة وطاعة، أي أن علمهم بما في الكون والأنفس وربطهم ذلك بالله -تعالى- القادر، هو الذي يولد الخشية لله تعالى، المقتضية لعبادته وحده لا شريك له، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "العلم بالرحمن: من لم يشرك به شيئا، وأحل حلاله وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله".

وعلى هذا: فأي علم لا يوصل إلى الإيمان بالله وخشيته وعبادته فليس بعلم في الحقيقة، قال ابن كثير في هذه الآية: "أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم، المـوصوف بصفات الكمال، المنعوت بالسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر"، وبهذا الميزان أيها الإخوة يمكن أن توزن علوم الحضارة المعاصرة، هل قادت أصحابها إلى الإيمان بالله؟ أم أنها ركبت في عقولهم غرورا؟ فتكبرت على ربها -تبارك وتعالى-، وصارت تحاربه بعلومها المادية ليلاً ونهارًا.

الوقفة الثانية: قال الله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].

هل يستوي القانت المطيع لله ورسوله، ومن أشرك بالله وجعل له أنداداً؟ إنهم لا يستوون أبدًا، وقد وُصِف هذا المطيع بأنه آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، فهو بين الخوف والرجاء، مع كثرة عمله وصلاحه.

ثم قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

قال الإمام الطبري رحمه الله: "يقول –تعالى ذكره-: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون مالهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون في عشواء لا يرجون بحسن أعمالهم خيراً، ولا يخافون بسيئها شرّاً، يقول: ما هذان بمستويين".

ونقل القرطبي -رحمه الله- عن بعض العلماء أنه قال: "الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه، ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم".

أيها الإخوة في الله: وهذا يشمل العلوم الشرعية وغيرها، ومن ثم فإن هذه الآية تدل على عدة أمور:

أحدها: أن العلم الذي لا يوصل إلى الله -تعالى- فليس بعلم حقيقي مهما كان.

الثاني: أن العلم الصحيح هو ما نقل صاحبه إلى العمل  على وفق شرع الله -تبارك وتعالى- رغبة في ما عند الله -تعالى- وحذرا من عقابه.

الثالث: أن غاية الحياة ومنها طلب العلم على مختلف فنونه وفروعه، هو عبادة الله -تبارك وتعالى-.

وبهذا: تضبط موازين الحياة.

وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

الوقفة الثالثة: مع قوله -تعالى- في أول سورة الروم: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم:1-4].

في هذه الآيات إخبار الله -تعالى- بنصـر الروم على الفرس الوثنيين الذين انتصروا عليهم أولا، وفرح بذلك إخوانهم من مشركي مكة، فلما انتصر الروم فرح المؤمنون بذلك، قال القرطبي -رحمه الله تعالى- وإنما نقلت كلامه هنا لأقف وقفة مع قوله: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ).

يقول القرطبي -رحمه الله تعالى-: "وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تَغْلِبْ إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين، وفارس من أهل الأوثان.

قال النحاس: وقول آخر وهو أولى: أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله -تعالى- , إذ كان فيه دليل على النبوة، لأنه أخبر -تبارك وتعالى- بما يكون في بضع سنين، فكان فيه.

قال ابن عطية: ويشبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر؛ لأنه أيسر مئونة، ومتى غلـب الأكبر كثر الخوف منه، فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترجاه من ظهور دينه، وشرع الله الذي بعثه به، وغلبته على الأمم، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه، وقيل: سرورهم إنما كان بنصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن جبريل أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، قال -تعالى- بعد هذه الآيات: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:6-7].

إن أكثر الناس لا يعلمون ولو بدا في الظاهر لدى عامة الناس أنهم علماء، وأنهم يعلمون كثيراً من العلوم، المتعلقة بالإنسان أو الأرض أو الفلك أو غير ذلك من العلوم، والسبب في ذلك أنهم كما قال الله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الروم: 7].

وظاهر الحياة الدنيا محدود جداً لا يستطيع البشر استقصائه في حياتهم المحدودة، فنسبة علمهم كنسبة هذه الأرض إلى غيرها من الكواكب والمجرات، وهذه الأرض والحياة منها ما هي إلا طرف صغير من هذا الوجود الهائل البعيد من ناحية الزمان والمكان، والكفار وُصِفوا بأنهم لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وذلك لأمور:

أحدها: أن علومهم مادية سطحية، تتعلق بظاهر الحياة دون سننها الثابتة التي أرادها الله تعالى، فعلومهم مقطوعة عن خالقهم، واهب هذه العلوم وخالقها وقدرها، فلا يعرفون منها إلا قوانينها المادية البحتة، أما كيف جاءت؟ ولماذا جاءت؟ ومن الذي خلقها؟ فهذا كله هم عنه غافلون.

ثانياً: أنهم في خضم انشغالهم بعلومهم ومعارفهم المادية ومتابعتهم لتطورها في كل يوم، نسوا قضية بدهية، لابد أن يفكر فيها كل عاقل، ألا وهي: ما هي الغاية من خلـق الوجود الإنساني؟ تألموا حضارة عالمية كبرى، بلغت من التطور العلمي مبلغًا عجيبًا، ومع هذا لا يعرف الفرد فيه الجواب الصحيح عن هذه الأسئلة البدهية، من الذي خلقني؟ ولماذا خلقني؟ وإلى أين المصير؟ وصدق الله إذ يقول عن الكفار مهما بلغ علمهم: (أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الأعراف:197].

وأشهر متخصص في أي فن من الفنون العلمية المادية مادام لا يؤمن بالله على الوجه الحق، فهو داخل في حكم هذه الآية.

ثالثاً: غفلتهم عن الآخرة والوقوف بين يدي الله تعالى، للجزاء والحساب، قال -تعالى- في ختام هذه الآية: (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7].

وإنكار الآخرة والبعث بعد الموت والغفلة عن ذلك، يؤدي إلى اختلال عظيم في موازين الحياة الدنيا، وأي إنسان لا ينظر إلا إلى الحياة الدنيا فقط، فلا بد أن يكون علمه سطحياً ناقصاً، ولا يمكن أن يتصور الحياة بكل ما فيها من أحداث، وكل ما ينبثق منها من أمور، لا يمكن أن يتصور ذلك تصوراً صحيحاً، أما المؤمن بالله واليوم الآخر فيختلف تماماً في ميزانه للأمور، وتعامله مع الحياة، ومقاييسه لها، حتى وهو يبني ويعمر، ويتقدم في علومه المادية، فهو يتعامل معها من خلال موازين وسنن ثابتة، تربط الحياة الدنيا القصيرة الفانية بالحياة الأخرى الأبدية الباقية، وهذا هو الفرق بين ما تنتجه الأمة الإسلامية المؤمنة من حضارة، وما تنتجه حضارة العصر الكافرة من حضارة.
 

وحين نقارن بين الأمتين في هذا المجال يتبين أنه لا يمكن أن يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها، ولا ينتظر ما ورائها، لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة، ولا يتفقان في حكم واحد، على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون، فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال.

 هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا، وذلك – أي المؤمن – يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والحاضر والماضي والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء، وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه، ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان.

أيها الإخوة في الله: نعم.. لا يمكن أن تلتقي حضارة تبنى على الإيمان بالله واليوم الآخر وحضارة تقوم على الكفر بالله وعدم الإيمان بيوم الحساب.

أيها الإخوة في الله: يا طلاب العلم: أيها الدارسون: أيها المتعلمون في فنون المعرفة: إن الأمة الإسلامية تنتظر منكم علماً نافعاً يغنيها عن غيرها، تنتظر منكم أن تقوم هذه الأمة بعلمها الشرعي أولا، وبعلومها الأخرى، تنتظر منكم أن تتحول هذه الأمة إلى أمة كما عهدناها، رافعة الرأس، شامخة تقود الأمم ولا تقاد، ينظر إليها بعين الرفعة والمكانة، لا كما هو حالنا اليوم.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوقظ أمة الإسلام، حتى ترجع إلى دينها رجوعاً صحيحاً، وحتى تتعلم علومها على منهاج شرعي صحيح، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.

 اللهم ارفع شأن هذه الأمة الإسلامية، اللهم إنا نسألك أن توفق كل طالب علم إلى منهاج سليم في حياته، اللهم إنا نسألك الإيمان والعلم النافع، والعمل الصالح، اللهم إنا نسألك أن تحبب إلينا الإيمان بك، وأن تزينه في قلوبنا، وأن تكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن تجعلنا من الراشدين.

 اللهم أذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه يا رب العالمين، اللهم واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.

 اللهم إنا نسألك أن ترحم موتى المسلمين جميعا، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.