الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الأعياد الممنوعة - أهل السنة والجماعة |
عندما غابت شمس النبوات عن الكرة الأرضية اشتد الظلام، وعظم الضلال، وازداد الشر، وانحرفت العقول، وانطمست البصائر، وبات الناس؛ كما قال الباري -تعالى-: (فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [الأنعام: 74] يعبدون أهواءهم! ويحتكمون لِشهواتهم! ويأكلون ضعيفهم! لا عدالة تقام! ولا عرض يصان! ولا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 - 71].
إخوة الإسلام: عندما غابت شمس النبوات عن الكرة الأرضية اشتد الظلام، وعظم الضلال وازداد الشر، وانحرفت العقول، وانطمست البصائر، وبات الناس؛ كما قال الباري -تعالى-: (فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [الأنعام: 74].
يعبدون أهواءهم! ويحتكمون لِشهواتهم! ويأكلون ضعيفهم! لا عدالة تقام! ولا عرض يصان! ولا تآلف يسود ويدوم!
تصور أنك عائش في مجتمع يعظم الأصنام، وينتهك الحرمات، ويتمدح بالمظالم وتغشاه الحروب والعدوات لأسباب تافهة! قد اجتاحته براثن الجاهلية، فألقته في مستنقع من الكبرياء والسفه والاعوجاج!
في هذا المجتمع تشح العقول الزكية، وعنه تختفي الفطر السليمة، فلا توحيد خالص، ولا استقامة صحيحة.
وما إن يظهر الرجل المستقيم، والعقل الزكي، إلا وينال منه، ويُسخر به، ويتعجب له ومن منهاجه!
ومن هؤلاء الذين زكت عقولهم، وأنكر سفاهة قومه: "زيد بن عمرو بن نُفيل"، فكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم، وطلب الدين الحق، ووفق للحنيفية دين إبراهيم -عليه السلام-، وعصمه الله من عبادة الأوثان والأحجار، وكان يقول:
أرباً واحدا أم ألف ربٍ | أدينُ إذا تقسمت الأمورُ |
عَزلتُ اللات والعزى جميعا | كذلك يفعل الجلْدُ الصبورُ |
ولكنْ أعبد الرحمن ربي | ليغفر ذنبي الربُّ الغفورُ |
روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي وهو يصور سخافة الوثنية التي كانت تعيشها الجاهلية قبل الإسلام ويقول: "كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخيرَ, ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جَثوةً من تراب، ثم جئنا بالشاة فبالت عليه، ثم طفنا به".
وهكذا فإن كل مجتمع كافر، يخلو من نور النبوة، مصيره إلى الضياع والهلاك، فلا يُستغرب تدينه بالبطل وتعلقه بالسفه، وركضه وراء الشهوة وتخييم النكاد والتطاحن بين أهله وأفراده.
فكان العالم قبل الإسلام، شقاءً في شقاء، ودماراً في دمار، يحتاج إلى مصلح يضيء له نور السعادة، ويفتح له منافذ النجاة، فكان من رحمة الله -تعالى-: أن يعث من غار حراء، نسمة مباركة، تجللت بالهدى والنور، وتحلت بالخير والسماحة، وكانت فاصلاً بين دهر غص بالشرور والموبقات ودهر مُلأ بالأفراح والمسرات.
وُلدت الحياة ميلاداً جديداً من غار حراء، الذي أعلن بزوغ النبوة، وإشراقة خير الخلق -صلى الله عليه وسلم-، فتنسمت الحياة، وأشرقت التلال واستنار الكون.
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار | وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار |
بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً | وأعلنت في الربا ميلاد أنوار |
فأقبل الفجرُ من خلف التلال وفي | عينيه أسرار عُشاق وسمار |
كأن فيض السنا في كل رابية | موج وفي كل سفح جدول جاري |
تدافع الفجر في الدنيا يزف إلى | تاريخها فجر أجيال وأدهار |
واستقبل الفتح طفلاً في تبسمه | آياتُ بشرى وإيماءت إنذار |
وشب طفل الهدى المنشود متزرا | بالحق متشحاً بالنور والنار |
في كفة شعلة تهدي وفي فمهِ | بشرى وفي عينه إصرارُ أقدارِ |
وفي ملامحه وعد وفي دمه | بطولة تتحدى كل جبارِ |
أيها المسلمون: كانت بعثة رسولنا -صلى الله عليه وسلم-, رحمة بعد ظلماء، وجمعاً بعد شتات, وحياة بعد ممات، وفرجاً بعد كرب ومأساة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، وكانت منةً على أهل الإيمان. زكت نفوسهم، ورفعت أقدارهم، وأصلحت حياتهم وشؤونهم: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران: 164].
أيها الإخوة الكرام: في هذا الشهر، شهر ربيع الأول، وُلد رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فكان مفتاح الخيرات والبركات للبشرية جمعاء، وأيقن أهل الإيمان برسالته وبفضله وعظمته، وجعله الله -تعالى- حجة على العالمين، وقدوة للناس أجمعين، يهتدون بهديه ويستنون بسنته، فبلغ من حب بعض الناس له أن غلوا فيه، ووصفوه بما لا يليق، وأنزلوه منزلة الكريم الوهاب فسألوه ودعوه من دون الله بعد مماته. وصنعوا له ما لا يرضاه هو في حياته، ومن ذلك ما يُسمى "بالمولد النبوي" الذي أحدث في العصور المتأخرة، وما عرفة السلف ولا فعله الأئمة المقتدى بهم، وإنما لجأ إليه بعض من قل فقهه وعلمه فعظموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحدثوا شيئاً منكراً، ليس له أصل في الدين.
أيها الإخوة الكرام: في هذا الشهر، شهر ربيع الأول، وُلد رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فكان مفتاح الخيرات والبركات للبشرية جمعاء، وأيقن أهل الإيمان برسالته وبفضله وعظمته، وجعله الله -تعالى- حجة على العالمين، وقدوة للناس أجمعين، يهتدون بهديه ويستنون بسنته.
واعتبروا ذلك عيداً، يفرحون فيه، ويبتهجون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فينشدون القصائد الغالية والمدائح النبوية، وربما صاحب ذلك مناكر أخرى من اختلاط بالنساء، وإحضار معازف ودعاء رسول الله وسؤال ما لا يجوز ولا يصح، فينقلب العيد البهيج إلى منكر قبيح، ومدرسة تعلم الشرك والغلو، وتهتك الأخلاق والآداب، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (أي مردود لا يُعتد به).
وهذا المولد المحدث لم يصنعه السلف الصالح الكرام، وهم أصدق الناس حباً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشدهم تعظيماً، وقد بذلوا أموالهم وأنفسهم من أجله.
أيها الإخوة: لقد حَمى الله -تعالى- هذه البلاد المباركة من هذه البدعة المنكرة فهيمنت عليها العقيدة السلفية وحرستها الآثار النبوية، ولا يعرف أهلها شيئاً من ذلك.
ولكن أحببنا التنبيه والتحذير لئلا يغتر أحد بسماع شيء من فتاوى الفضائيات المتساهلة أو البرامج التي لا تتردد في نشر ذلك، فقد يغتر بعض العوام بما يسمعه أو يراه؛ لأننا صرنا في عصر منفتح، متصل بعضه ببعض، فوجب النصح والتنبيه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 71].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وصلى الله وسلم وبارك على نبيناً محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام: يدّعي أصحاب المولد النبوي أنهم يعظمون رسول الله بذلك، وينشرون فضله ويثنون سنته.
ونقول لهم: إن تعظيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بليلة تُحيا في السنة، وليس بقصائد شركية، ولا مدائح بدعية! ولم يكن تعظيمه بدق الطبول، واختلاط الجنسين، ولم يكن تعظيمه بتقريب الموائد، وإيقاد الأنوار، وتلميع المنازل والاستراحات! فكل ذلك لون من البدع المنكرة التي لا تُرضى ولا تُطاق!
إن تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون باتباع سنته والسير على منهاجه، والذبّ عن شريعته، وذلك حبه والتعلق به: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31].
محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي العمل بسنته ونشر دينه، والتخلق بأخلاقه، وإن كثيرين ليشهدون هذه الأعياد، وهم أبعد ما يكونون عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل ربما كان بعضهم منابذا للسنة، وآخر لا يقتدي بها، وآخر يحضر للفرح والرقص والسرور وآخر للأكل وملء البطون، ثم يدعون بعد ذلك محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وتعظيمه!
ومن هؤلاء من لا يقيم الدين، ولا يشهد الجماعات، ويأكل المحرمات ويباشر الشهوات، في ليلة يحييها بالفرح، أو مكان يتردد عليه متى شاء -والله المستعان-.
يا مسلمون: عظموا رسول الله باتباع دينه، ونشر سنته، والتعلق بآثاره وشمائله، وكونوا كالسلف الصالح، أحبوا رسول الله وما غلَوا فيه، نشروا دينه، وحرسوا سنته، واهتدوا بهديه وأتوا محاسنه واجتنبوا مكارهه، فكانوا خير الأصحاب لخير نبي -عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم-.
وكان الأئمة المقتدون لهم، على هديهم، يعظمون النبي -صلى الله عليه وسلم- باتباعه والحرص على سنته وأقواله، يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: "إذا خالف قولي قول رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط"، ويقول الإمام أحمد -رحمه الله-: "من رد حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو على شفا هلكة"، ويقول سفيان الثوري -رحمه الله-: "إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل".
فهكذا -يا مسلمون- تكون المحبة والتعظيم ويكون العمل والاتباع: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب: 21].
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم وفقنا للخيرات، وجنبنا الغفلة والحسرات.