العالم
كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
فإذا كان صلى الله عليه وسلم يخاف الشرك على أصحابه؛ الذين وحدوا الله ورغبوا إلى ما أمروا به وهاجروا وجاهدوا وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم؛ فكيف لا يخافه وما فوقه من لا يدانيهم، ومن لا نسبة له إليهم في علم ولا عـمل، خصوصًا إذا عُرف أن أكثر الناس اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، لم يعرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإِخلاص عن كل ما سوى الله
الحمد لله أهل الحمد والشكر، والإِحسان والبر، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، نعمه تجل عن الحصر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، أكرم رسول نزل عليه أشرف ذكر، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين؛ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-؛ فتقوى الله أكرم ما أسررتم، وأجمل ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، أعاننا الله على لزومها، وأوجب لنا ثوابها.
عباد الله: لأجل توحيد الله -عز وجل- وإفراده بالعبادة؛ خُلقت الخليقة، ولتحقيقه شُرعت كل عبادة، فالتوحيد هو الغاية العظمى، والهدف الأسمى، والمقصد الأسنى؛ قال - تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]
ولما ذكرنا التوحيد وفضله وتحقيقه في الخطبة السابقة؛ ناسب أن نذكر في هذه الخطبة الخوف من ضده وهو الشرك، ليحذره المؤمن ويخافه على نفسه.
فقد كان الأنبياء يخافون على أنفسهم الوقوع فيه، وقد حذر الله الأنبيـاء -مع منزلتهم العالية -من الوقوع في الشرك- وحاشاهم ذلك -قال تعالى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر: 65] وعلى ذلك سار السلف الصالح من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال حذيفة -رضي الله عنه-: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه"، وفي الحديث: "من أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه".
وفي الحديث -الذي رواه مسلم- أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر من قول: "يا مُقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قيل له: يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب؟ قال: "إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يُقلبها كيف يشاء" فإن شاء -سبحانه- أقامها على دينه، وإن شاء أزاغها، فالعبد إذا من الله عليه بالتوحيد علمًا وعملاً؛ فعليه الخوف من زوال هذه النعمة العظيمة.
وحقيقة الخوف من الشرك؛ صدق الالتجاء إلى الله والاعتماد عليه والابتهال والتضرع إليه، والبحث والتفتيش عن الشرك ووسائله وذرائعه؛ ليسلم من الوقوع فيه، فإن عقابه عظيم وجرمه كبير. قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: 48].أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، أي عادل غيره به فيما يختص به -سبحانه- وصارف خالص حقه لغيره، ومشبه المخلوق العاجز بمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه.
وإذا كان من مات على الشرك لا يُغفر له، وجب على العبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله، ومع كونه أعظم الذنوب عند الله -سبحانه-، ولا يغفر لمن لقيه فهو هضم للربوبية، وتنقص للألوهية، وسوء ظن برب العالمين.ثم قال -سبحانه وتعالى-: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
أي: يغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من عباده، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أعطى ثلاثًا منها: "وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المقحمات" رواه مسلم يعني الكبائر، ففيه فضل السلامة من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره، فتبين بهذه الآية ونحوها أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله أخبر أنه لا يغفر لمن لم يتب منه، وأما ما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة، إن شاء غفر لمن لقيه به، وإن شاء عذبه.
عباد الله: يجب الحذر من الشرك كله ومن ذلك: ما وقع فيه كثير من المنتسبين إلى الإِسلام من الشرك الأكبر وذلك بالغلو في الأنبياء والصالحين، بسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، والنذر والذبح لهم، وطلب الشفاعة منهم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك.
ولا كفارة لهذا الشرك إلا بالتوبة منه، وإخلاص العمل لله وحده، وإلا فمن مات عليه فإنه مُخلد في النار، قال -تعالى-: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة: 72]
أيها المسلمون: الخليل -عليه السلام- يدعو ربه بدعاء عظيم: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35].أي: اجعلني وبنيَّ في حيز وجانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها، وهذا مما يخيف العبد.
فإذن كان الخليل -عليه السلام- إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة وحده، وابتُلي بكلمات فأتمهن، وقد كسر الأصنام بيده، يخاف أن يقع في الشرك، فكيف يأمن الوقوع فيه من هو دونه بمراتب، بل أولى بالخوف منه وعدم الأمن بالوقوع فيه.
قال إبراهيم التيمي: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟! وقد وقع فيه الكثير من هذه الأمة بعد القرون المفضلة، فبنيت المساجد والمشاهد على القبور وغيرها، وصرفت لها العبادات بأنواعها، وشابهوا ما وقع في الجاهلية وأعظم واتخذوا ذلك دينًا، وهي أوثان وأصنام، فإن الصنم ما كان مصورًا على أي صورة، والوثن ما عُبد مما ليس له صورة كالحجر والأبنية، وقد يُسمى الصنم وثنًا، كما قال الخليل: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) [العنكبوت: 17] فالأصنام أوثان كما أن القبور بالنص أوثان، فالوثن أعم".
وقال بعض العلماء: "كل ما عبد من دون الله، بل كل ما يشغل عن الله يقال له صنم"، وقد بين الخليل -عليه السلام- السبب الذي أوجب له الخوف من ذلك بقول: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ) [إبراهيم: 36]
ومن أنواع الشرك: ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أَخوف ما أَخاف عليكم الشرك الأصغر" فسُئل عنه فقال: "الرياءُ" رواه أحمد والطبراني.
عباد الله:لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا إلا دل عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه، ومن أعظم الشرك الذي حذرها منه الرياء؛ وهو أن يُظهر العبد عبادته أو يُحسنها ليراه الناس فيمدحونه عليها؛ وهذا شرك أصغر يُبطل العمل الذي قارنه، ويأثم صاحبه؛ لأن الله -عز وجل- لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا.
فإذا كان صلى الله عليه وسلم يخاف الشرك على أصحابه؛ الذين وحدوا الله ورغبوا إلى ما أمروا به وهاجروا وجاهدوا وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم؛ فكيف لا يخافه
وما فوقه من لا يدانيهم، ومن لا نسبة له إليهم في علم ولا عـمل، خصوصًا إذا عُرف أن أكثر الناس اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، لم يعرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإِخلاص عن كل ما سوى الله، ويقولون من قالها فهو المسلم وإن فعل ما فعل.
فينبغي للإِنسان أن يحذر كل الحذر، ويخاف أن يقع في الشرك الأكبر إذا كان الشرك الأصغر مخوفًا على الصالحين، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أمته بوقوع الشرك، وقد عمت به البلوى في أكثر الأقطار، حتى اتخذوه دينًا، مع ظهور البراهين في النهي عنه، والتخويف منه، وأفاد الحديث أن الرياء من الشرك الأصغر، وأنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
والشرك قسمان: أكبر وأصغر، وبينهما فرق في الحكم والحد، فالأكبر: أن يسوي غير الله بالله فيما هو من خصائص الله كالمحبة والدعاء والذبح، وحكمه أنه لا يُغفر لصاحبه أبدًا إلا بالتوبة، وأنه يحبط جميع الأعمال، وأن صاحبه خالد مُخلد في النار، والأصغر هو ما أتى في النصوص أنه شرك، ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر، وحكمه أنه لا يُغفر لصاحبه إلا بالتوبة؛ لعموم قوله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) وأنه يُحبط العمل الذي قارنه، ولا يوجب التخليد في النار، ولا ينقل عن الملة، ويدخل تحت الموازنة، وإن حصل معه حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة وإلا دخل النار.
أيها المسلمون: الدعاء عبادة من أجَّل العبادات، وأعظم القربات، فمن جعل لله ندًا يدعوه سواء كان ملكًا مقربًا، أو نبيًا مرسلاً، أو عبدًا صالحًا، أو غير ذلك؛ فقد وقع في الشرك الأكبر الذي لا ينفع معه عمل صالح ولو كان صاحبه من أعبد الناس. قال -تعالى-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60]
وفي الحديث الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات وهو يدعو لله ندًا دخل النار".في هذا الحديث التحذير من الشرك والتخويف منه، فمن جعل لله ندًا في العبادة؛ يدعوه ويسأله ويستغيث به، نبيًّا كان أو غيره دخل النار.
والند المثل والشبيه، واتخاذ الند على قسمين: أن يجعل لله شريكًا في أنواع العبادة أو بعضها، فهذا شرك أكبر، والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر، كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وكيسير الرياء.
قال شيخ الإسلام: "وكبخله -لحب المال- ببعض الواجب هو شرك أصغر، وحبه لها يبغضه الله، حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر".أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة: 72]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله شرح صدور المؤمنين فانقادوا لطاعته، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فلم يجدوا حرجًا في امتثال شريعته، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: روى مسلم، عن جابر -رضي الله عنه- أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يُشرك به شيئًا دخل النار".قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "هذا حديث الموجبتين؛ موجبة السعادة، وموجبة الشقاوة".
وفي الحديث يبين صلى الله عليه وسلم أن من مات لم يتخذ مع الله شريكًا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة دخل الجنة، ففيه فضيلة السلامة من الشرك، ومن حديث أبي ذر -رضي الله عنه-، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبرائيل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يُشرك بالله شيئًا دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" وفي الرابعة: "على رغم أنف أبي ذر".
ودخول من مات غير مشرك الجنة مقطوع به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرًا عليها دخلها أولاً، وإلا فهو تحت المشيئة، فإن عفا عنه دخلها أولاً، وإلا عُذب ثم خرج من النار وأُدخل الجنة.
فإذا كان التغليظ في النهي عن الشرك بهذه الشدة فينبغي شدة الخوف منه. وقوله: "شيئًا" نكرة تعم قليل الشرك وكثيره، أما الأكبر فلا عمل معه البتة، ويوجب الخلود في النار، ولا فرق بين الكافر عنادًا وغيره، ولا بين من انتسب إلى ملة الإسلام أو خالفها.
ومن المعلوم بالضرورة من الدين -المجُمع عليه عند أهل السنة- أن من مات لا يشرك بالله شيئًا يدخل الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحن.
وأما الشرك الأصغر: كيسير الرياء، وقول الرجل: "ما شاء الله وشئت"، "وما لي إلا الله وأنت"، ونحو ذلك، فيطلق عليه الشرك كما في حديث: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" ونحو ذلك، ولكن لا يخرج بذلك من الملة بالكلية، ولا ستحق اسم الكفر على الإطلاق، فهو أخف من الأكبر، وقد يكون أكبر بحسب حال قائله ومقصده.
عباد الله: الشرك خفي جدًا، فقد يكون في الإنسان وهو لا يشعر إلا بعد المحاسبة الدقيقة، ولهذا قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "ما جاهدت نفسي على شيء ما جاهدتها على الإخلاص".
فحاسبوا أنفسكم، وتفقدوا أعمالكم، وأصلحوا قلوبكم، تسعدوا وتفلحوا.
هذا وصلوا على نبي الرحمة.