الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
1/ المقصود بالأبطال الكماة 2/ صور ناصعة ومواقف خالدة للأبطال الكماة في الإسلام 3/ الفخر والاعتزاز بالأبطال الكماة
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب، إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
معاشر المسلمين: هل سمعتم أحاديث الكماة الأباة، منابذي الذل والهوان، وعائفي العيش المستذل المستباح؟ وهل أتاكم خبر حملة الرسالة، ورجالات الجهاد الذين كانت وظيفتهم رعاية الإسلام، وحياتهم التضحية والفداء، ونزهتهم النصرة أو الشهادة؟
لقد حفَل تاريخنا الإسلامي بأخبار ذوي العزة والإقدام والشجاعة والثبات الذين سكن الإيمان في قلوبهم، وارتقت طموحاتهم بحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أناس عرفوا معنى قوله تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) [الحج: 40].
واستشعروا قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) [التوبة: 111] فطمعوا إلى المنازل الرفيعة والمقامات السامية إلى جنات النعيم، وتيقنوا أن سبيلها ليس إلى الخلود والراحة وليس الخنوع والكسل، وليس إلى السهرات اللاهية والمجالس التافهة!
فهم أناس قصدوا المجد من بابه، وأسالوا الماء من ميزابه، فكانوا كما قال فيهم عُمير بن وهب عندما أرسلته قريش لينظر جيش المسلمين في بدر فقد قال: "يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، يتلمظون تلمظ الأفاعي، ولن يموت رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم فرُوا رأيكم".
فهاكم بعض المشاهد والمواقف لأبطال الإسلام الذين عافوا حياة الذل وتوجوا أنفسهم وأمتهم بالبطولات والتضحيات:
عبد الله بن حرام الأنصاري الصحابي الشهيد الذي كلمه الله كفاحاً بلا ترجمان؛ روى البخاري في صحيحه عن جابر -رضي الله عنه- أنه قال: "لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولا مع أول من يقتل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وإني لا أترك بعدى أعز علي منك، غيرَ نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن عليَّ ديناً فاقضه، واستوص بإخوتك خيراً، فأصبحنا فكان أول قتيل"، وفي رواية قال له: "إني معرِّض نفسي للقتل" فلله دره من بطل شجاع يطلب الشهادة ويسعى إليها غير مبال ولا هياب، قال جابر: "لما قُتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهونني وهو لا ينهاني، وجعلت عمتي تبكيه، فقال صلى الله عليه وسلم: "تبكيه أولا تبكيه، فوالله ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه"، وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره عن جابر قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أُخبرك أن الله كلَّم أباك كِفاحاً؟ فقال: يا عبدي، سلني أُعْطِك؟ قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا، فأُقتل فيك ثانيةً، فقال: إنه قد سبق فيها أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169].
إخوة الإسلام: هل بلغكم ما صنع سعد بن الربيع -رضي الله عنه-؟!
كان أحد النقباء ليلة العقبة، شهد أحدا، فقاتل قتالا عنيفا، حتى توالت عليه الطعنات فأثخنته الجراح، فوجده رجل من الأنصار، فقال له: "أبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقل: إن سعدا يقول: جزاك الله عني خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك مني السلام، وقل لهم: إن سعدا يقول لكم: إنه لا عذرَ لكم عند الله إن خُلِص إلى النبي، وفيكم عين تطرُف".
أيها الإخوة: تخلف أنس بن النضر الأنصاري -رضي الله عنه- عن غزوة بدر، فلما جاءت أحد قال: "يا رسول الله غِبتُ عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرينَّ الله ما أصنع؟" فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعنى أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعنى المشركين) ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنةَ وربَّ النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، فوجدوا فيه بضعا وثمانين ضربة، فما عرفته إلا أخته ببنانه (أي رؤوس أصابعه)، قال أنس بن مالك: "كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23].
أيها الإخوة: أنبتت الأجساد الكافرة غرسة مؤمنة، وأسلمت وصدقت، وحسن إسلامها، عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه- البطل الشجاع، الذي بايع على الموت إلى اليرموك، قال الشافعي -رحمه الله-: "كان محمود البلاء في الإسلام -رضي الله عنه-".
لما كان يوم اليرموك تقدم خالد وعكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو قبل أن ينشأ القتال، فبدرا يرتجزان، ودعَوا إلى البراز، وتنازل الأبطال، وتجاولوا، وحميت الحرب، وقامت على ساق، فنادى عكرمة: "قاتلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل موطن، وأفر منكم اليوم، من يبايع على الموت، فبايعه أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قتالا شديدا، ومات عكرمة -رضي الله عنه- في اليرموك، ووجدوا فيه بضعا وسبعين من طعنة ورمية وضربة -رضي الله عنه-".
أيها الإخوة: صورة أخرى من التاريخ ما صنعه السلطان المظفر قطز، بطل عين جالوت، قال الذهبي في السير: "كان فارسا شجاعا، سائسا، دينا، محببا إلى الرعية، هزم التتار، وطهر الشام منهم يوم عين جالوت".
كانت عين جالوت في رمضان سنة 658 هـ، لما رأى عصائب التتار، قال للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تنزل الشمس، وتفيء الظلال، وتهب الرياح، ويدعوا لنا الخطباء والناس في صلاتهم.
ويذكر عن المظفر قطز -رحمه الله- أنه لما رأى انكشافا في بداية المعركة صرخ صرخته الشهيرة: "وا إسلاماه" ورمى عن رأسه الخوذة، وحمل ونزل النصر، قال تعالى: (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].
أيها الإخوة: أبو محمد عبد الله البطّال من صناديد الإسلام الأشداء، كان مقدم الأمير مسلمة بن عبد الملك، وكان مقره بأنطاكية وقد أذاق الروم مرَّ الهزيمة والمهانة، وطار اسمه بلاد الروم مهابة وإجلالا ومخافة، حتى إن المرأة لتخوف ابنها بالبطال، واسمعوا هذه القصة: قال أبو مروان (شيخ من أهل انطاكية) قال: "كنت غازيا مع البطال، وقد أوطا الروم ذلا، قال البطال: فسألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري في مغازي فيهم، فقلت له: خرجت إلى سرية ليلاً، فدفعنا في قرية، فقلت لأصحابي: أرخوا لجم خيلكم ولا تحركوا أحداً بقتل ولا بشيء حتى تتمكنوا من القرية ومن سكانها، ففعلوا واقتربوا إلى أزقتها فدفعت أنا وأناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجه، وإذا امرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول له: لتسكتن أو لأدفعنك إلى البطال يذهب بك، وانتشلته من سريره، وقالت، خُذه يا بطال، قال فأخذ ته!".
وله أخبار في القتل والشجاعة، تطالع في السير والبداية والنهاية.
رحم الله تلك العظام العزيزة التي تهتم بهم الإسلام، وتعيش لرسالته، وتأكل وتشرب من أجله.
أقول قولي هذا، أستغفر الله في ولكم من كل ذنب...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس: هذه بعض مفاخر أهل الإسلام الذين بجهادهم استقامت الحياة، وشمَخ الإسلام، وامتد الجهاد، وسادت العزة، واتسعت الفتوحات، وقامت المآذن والحضارات.
أولئك الرجال الأبطال لا يسوغ نسيانهم، أو تجاهلهم، أو طي صفحاتهم المشرقة في تاريخ الإسلام.
فأين نحن عن التعلم منهم والتأثر بسيرتهم وقصها على أبنائنا وتلاميذنا؛ فإن حضارتهم لا تزال وأمجادهم شاهدة، لكن أمتنا المنكوبة هي التي غيرت وبدلت، ومن قبل قال تعالى عن المجاهدين الصادقين: (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23].
ويح العروبة كان الكون مسرحها | فأصبحت تتوارى في زواياه |
كم صرفتنا يد كنا نصرفها | وبات يملكنا شعب ملكناه |
لي فيك يا ليل آهات أرددها | أواه لو أجدتَ المحزونَ أواهُ |
لا تحسبني محباً يشتكى وصَبا | أهوِنْ بما في سبيل الحب ألقاه |
إني تذكرت والذكرى مؤرقة | مجدا تليداً بأيدينا أضعناه |
أنَّى اتجهت إلى الإسلام في بلدِ | تجده كالطير مقصوصا جناحاه |
كم بالعراق وكم بالهند من شجنٍ | شكا فرددت الأهرام شكواه |
أين الرشيد وقد طاف الغمامُ به | فحين جاوز بغداداً تحداه |
وانزل دمشقَ وسائل صخرَ مسجدها | عمن بناه لعل الصخر ينعاه |
هذي معالمُ خرصٌ كل واحدة | منهن قامت خطيبا فاغراً فاه |
والله يعلم ما قلبت سيرتهم | يوماً فاخطأ دمعُ العين مجراه |
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.