العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان |
لقد نجح الخليل وابنه في الامتحان العظيم؛ فرجع الخليل لبلاد الشام وترك إسماعيل مع أمه في الحرم، وكان يزورهم كل فترة من الزمن، قال بعض المؤرخين كان يزورهم على البراق التي أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- عليها، وعندما التقى الوالد الولد سرعان ما تعانقا، وبثَّ كلٌّ منهما للآخر ما يجد، ثم أفضى إبراهيم لابنه بما أمره الله به؛ فكان إسماعيل أطوع لأبيه من بَنَانه، وما كان جوابه إلا السمع والطاعة، وسارا إلى...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: لا نزال نغترف من سيرة الخليل -عليه السلام- تلك الآداب والحكم، التي قصها الله عنه في كتابه، وقد وعدت في الخطبة الماضية أن نأتي بقصة الخليل في ذبح ابنه، وبناء الكعبة في هذه الخطبة، وهذا أوان الوفاء؛ فإن إبراهيم -عليه السلام-، كما لا يخفى لم يرزق الولد؛ إلا على كبر في السن، قيل بلغ الثمانين ولم يرزق الولد، حيث كانت زوجته سارة عقيما لا تلد؛ فلما وهبت له هاجر أنجبت له إسماعيل وكان عمر الخليل يومئذ ثمانين سنة، ثم بشر بولد آخر من سارة وهو إسحاق، ثم ابتلاه الله بأن أمره بذبح إسماعيل عندما كبر وبدأ ينفع أباه، كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].
وقد يتساءل البعض ما الحكمة في الأمر بذبح الابن، ويجيب عنها ابن القيم -رحمه الله- في كتابه زاد المعاد حيث يقول: "لما سأل إبراهيم -عليه السلام- ربه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلاً؛ والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها؛ فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل؛ فأمره بذبح المحبوب؛ فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلُصَت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة؛ فلم يبقَ في الذبح مصلحة إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه فقد حصل المقصود فنُسِخ الأمر، وفُدِي الذبيح، وصدّق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب".
لقد كانت رؤيا الأنبياء وحيا من الله؛ فلما أمر الخليل بذبح ابنه في المنام استجاب مباشرة؛ فأراد أن يعرف استجابة إسماعيل؛ فقال له: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102]؛ فما كان من الابن الصادق الواعد، إلا أن قال: "يا أبتي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، كما حكى الله حالهم، فذهب به إبراهيم حتى لا تراه هاجر فتجزع، ذهب به إلى موضع الجمرات الآن بمنى؛ فأراد ذبحه عند الجمرة الصغرى؛ فتبدى له الشيطان؛ فقال له: اتذبح ولدك من أجل رؤى، وأراد صرفه عن الاستجابة؛ فعرفه إبراهيم فرماه بالحجارة، ثم انتقل بابنه لمكان الجمرة الوسطى؛ فتبدى له الشيطان؛ فرماه الخليل بالحجارة ثم عن جمرة العقبة مثل ذلك، ثم نزع ثياب ابنه وكبه على وجهه حتى لا يراه يتألم؛ فيتلكأ في تطبيق أمر الله، وكان قبل ذلك شحذ السكين، وقال له إسماعيل: يا أبت ارفع ثوبك لا يصيبه الدم فتراه أمي فتجزع، وفي هذه اللحظات التي تُسكَب فيها العبرات، وتُحتَبس من أجلها الأنفاس داخل الصدور؛ فلا ترى إلا المدامع في العيون، وضع إبراهيم -عليه السلام- السكين على رقبة ولده ليحزها؛ فسُلِبَت السكين حدها كما سُلِبت النار من قبل إحراقها، وجاءت البشرى؛ فنودي إبراهيم -عليه السلام-: (أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) [الصافات: 104 - 106]؛ يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ليس المراد من الابتلاء أن نُعذب، ولكنا نبتلي لنُهذب، وليس العجب من أمر الخليل بذبح ولده، وإنما العجب من مباشرة الذبح بيده، ولولا استغراق حب الآمر لما هان مثل هذا المأمور".
وإذا بكبشٍ عظيم أبيض أقرن قد بعثه الله تعالى فداءً لإسماعيل -عليه السلام- (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات:107]، وأصبح هذا اليوم يومُ عيدٍ للمسلمين وأصبح ذبح الأضحية نُسكًا يُتقَرب به إلى الله تعالى إكرامًا لذكرى إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام.
لقد نجح الخليل وابنه في الامتحان العظيم؛ فرجع الخليل لبلاد الشام وترك إسماعيل مع أمه في الحرم، وكان يزورهم كل فترة من الزمن، قال بعض المؤرخين كان يزورهم على البراق التي أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- عليها.
معاشر المسلمين: هل مر بكم استجابة أعظم من استجابة الخليل لأمر ربه، ومن استجابة إسماعيل لطلب أبيه، يالها من استجابة عظيمة، تفيد أن المسلم كلما قويت محبته لله، كلما قويت استجابته؛ حتى يقدمها على نفسه وولده والناس أجمعين؛ فأين الذين يقدمون شهوات النفس والدنيا على أوامر الله، أين الذين يعصون الله نهارا جهارا، بلا حياء ولا خوف، أين الذين يحاربون الله ورسوله بالمعاصي من تلك الاستجابة، لما قلت محبة الله في صدورهم أو انعدمت عند البعض، ذهبت معها الاستجابة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم ارزقنا الاستجابة لأمرك والرضا بقضائك أقول قولي هذا ..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: بعد أن كان ما كان من رؤيا الذبح، ترك إبراهيم ولده، وقفل راجعاً إلى موطنه الأصلي؛ فلبث بعيداً عن ابنه ما شاء الله أن يلبث، ثم وفد إليه لأمر جليل، وشيء عظيم؛ فقد أمره الله ببناء الكعبة، وإقامة أول بيت للناس؛ فاستجاب لأمر ربه، وعزم على التنفيذ مسرعا راغبا في الأجر من الله.
وعندما التقى الوالد الولد سرعان ما تعانقا، وبثَّ كلٌّ منهما للآخر ما يجد، ثم أفضى إبراهيم لابنه بما أمره الله به؛ فكان إسماعيل أطوع لأبيه من بَنَانه، وما كان جوابه إلا السمع والطاعة، وسارا إلى المكان المحدد لإقامة البيت، وأخذا يحفران الأرض، ويرفعان قواعد البيت، وكان إسماعيل يأتي بالحجارة، ويهيئ الأدوات، وإبراهيم يبني، وهما يسألان الله ويقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) [البقرة:127-128]، ولم يلبثا طويلاً حتى ظهر أساس البيت حيث أن البيت قد بني على الصحيح قبل إبراهيم؛ فقيل بناه آدم وقيل بنته الملائكة، وقد كان يحج قبل الخليل، ومع تقادم الزمن تهدم البيت ولم يبق إلا الأساس، وعندها رفع إبراهيم وإسماعيل البناء.
ولما ارتفع البناء، وطال الجدار، وقصرت يد إبراهيم أن تصل إلى أعلى البناء، طلب من ابنه أن يأتيه بحجر يستعين به ليصل إلى مطلوبه؛ فجاءه إسماعيل بحجر كان عوناً لـ إبراهيم على إتمام بناء البيت، وهكذا تم بناء البيت الذي جعله الله (مثابة للناس وأمنا) [البقرة:25]، تشتاق إليه الأرواح، وتحن إليه الأفئدة، وتأنس به النفوس، استجابة لدعوة إبراهيم -عليه السلام-: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) [إبراهيم:37].
عباد الله: من تأمل قصة إبراهيم تبين له كيف وصف الله إبراهيم الخليل بأنه أمة قانتٌ لله، وكيف تربع على مرتبة الخلة، وكيف أمرنا بالاقتداء به؛ حيث جعله الله أسوة حسنة لأمتنا، عاداه الناس كلهم؛ فلم يأبه بهم في ذات الله، كسر الأصنام، وهاجر لله، استجاب لأمر الذبح؛ فلما نجح في الامتحان وهبه الله إسحاق من زوجه سارة ومن وراء إسحاق يعقوب ابنا لإسحاق، وبنى الكعبة التي لم تزل من بعده تحج وتعمر، بل نحن نطلب من الله أن يصلي على نبينا ويبارك عليه وعلى آل بيته، كما صلى وبارك على إبراهيم وآل إبراهيم، بل جعل الله في ذرية إبراهيم النبوة والكتاب؛ فلا نبي بعده إلا من ذريته -صلوات ربي وسلامه على أنبياء الله ورسوله-.
اللهم وفقنا لهداك..