الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن الله -جل وعلا- مع كمال غناه عن العباد وكونه غنيًّا عن توبتهم وأوبتهم وإنابتهم، فإنه –سبحانه- يفرح بتوبة التائبين، مع أنه -جل وعلا- غني عن توبتهم؛ فإن توبة من تاب لا تزيد في ملك الله شيئًا، كما أن معصية من عصى لا تنقص من ملكه شيئًا، فهو -جل وعلا- لا تنفعه توبة التائبين، ولا تضره معصية العاصين، ومع ذلك فإنه -جل وعلا- يفرح بتوبة عباده...
الحمد لله غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله معاشر المؤمنين: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإن تقوى الله -جلَّ وعلا- أساس السّعادة وسبيل الفوز والفلاح في الدّنيا والآخرة، واتقوا الذنوب -رعاكم الله- فإن خطرها عظيم، وضررها جسيم، فإن كل بلاء يحل، وكل مصيبة تنزل سببها الذنوب والمعاصي، فما أعظم خطرها، وما أشد ضررها على العبد في الدّنيا والآخرة، والواجب على عباد الله التّوبة إلى الله -جلّ وعلا- بترك الذنوب والتخلي عنها، والبعد منها؛ خوفًا من الله وطمعًا في ثوابه، ومحبّةً له -جل وعلا- وخشية منه.
والتوبة -عباد الله- حقيقتها الرجوع إلى الله -جل وعلا- بترك الذنوب والإقبال على طاعة الله، فلا بد فيها من أمرين: ترك للمعاصي والآثام، وإقبال على طاعة وعبادة الملك العلام، فهذه حقيقة التوبة -عباد الله-, والتائبون -عباد الله- هم السعداء حقًّا، وهم أهل الفلاح وأهل كل خير في الدنيا والآخرة، ومن يطالع كتاب الله -جل وعلا- يجد فيه من عظيم موعود الله، وكريم ثوابه، وجزيل ما أعده للتائبين، يجد من ذلك شيئًا عظيمًا، وثوابًا كريمًا، وثمارًا لا تعد ولا تحصى.
ومن ثمار التّوبة -عباد الله- حصول الفلاح في الدّنيا والآخرة، كما قال -جل وعلا-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، والفلاح -عباد الله- هو حيازة الخير في الدّنيا والآخرة, بل ليس في الكلمات كلمةٌ أعظم منها في حيازة الخير والظَّفر به، والله -جلّ وعلا- رتب حصول الفلاح على تحقيق التّوبة.
ومن ثمار التوبة -عباد الله- تكفير السِّيئات، وإقالة العثرات، ورفعة الدّرجات، ودخول الجنّات؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [التحريم: 8].
ومن ثمار التوبة -عباد الله-، بل من عظيم ثمارها أن الله -جلّ وعلا- من واسع منه وعظيم فضله وجزيل عطائه، يبدِّل سيئات التائبين حسنات، وما أعظمها من ثمرة -عباد الله- لو تأمّلنا؛ يقول الله -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان: 68 -70].
ومن ثمار التوبة -عباد الله- المتاع الحسن، والعيشة الهنيئة في هذه الحياة الدنيا، قال الله تعالى: (وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود: 3].
ومن ثمار التوبة -عباد الله- توالي الخيرات، ونزول النعم والعطايا والهبات، وهطول الأمطار والبركة في المال والأولاد؛ قال الله تعالى فيما ذكره عن هود -عليه السلام- أنه قال لقومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود: 52]، وقال الله تعالى عن نبيه نوح -عليه السلام- أنه قال لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) [نوح: 10-12].
ومن ثمار التوبة -عباد الله- أن التائب حبيب إلى الله -جل وعلا-, والله تعالى يحبُّ التائبين, والله -جل وعلا- إذا أحبّ عبده سدّده في أعماله وأقواله وحركاته وسكناته؛ يقول -جلّ وعلا- في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنَّوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه".
والتائب -عباد الله- حبيب إلى الله -جل وعلا-، فما أحراه بهذه الثمار، وما أقربه لهذه الآثار؛ يقول الله -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222]، بل إن الله -جل وعلا- مع كمال غناه عن العباد وكونه غنيًّا عن توبتهم وأوبتهم وإنابتهم، فإنه –سبحانه- يفرح بتوبة التائبين، مع أنه -جل وعلا- غني عن توبتهم؛ فإن توبة من تاب لا تزيد في ملك الله شيئًا، كما أن معصية من عصى لا تنقص من ملكه شيئًا، فهو -جل وعلا- لا تنفعه توبة التائبين، ولا تضره معصية العاصين، ومع ذلك فإنه -جل وعلا- يفرح بتوبة عباده, يفرح بتوبة عباده فرحًا عظيمًا بيّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده إذا تاب من أحدكم أضل راحلته بفلاة –أي بصحراء ومفازة قاحلة–، وعليها طعامه وشرابه، حتى إذا أيس منها نام تحت ظل شجرة ينتظر الموت، فبينما هو كذلك إذا بخطام ناقته عند رأسه، فأمسك بخطامها وقال من شدة فرحه: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة فرحه". إنه أشد ما يكون ويوصف من الفرح، وقد بيَّن -عليه الصلاة والسلام- أن الرب العظيم، والخالق الجليل، يفرح بتوبة عبده إذا تاب فرحًا أشد من فرح هذا براحلته، فما أعظم ذلك -عباد الله- من محرك للقلوب الغافلة، والقلوب اللاهية، لتقبل على الله -جل وعلا-، ولتظفر بعظيم موعوده سبحانه، ولينال التائب أجر الله العظيم، وثوابه العميم، وخيراته في الدنيا والآخرة التي أعدها للتائبين.
ثم اعلموا -رعاكم الله- أن التوبة التي سبق ذكر بعض ثمارها، وعدّ بعض آثارها، لا تقبل من العبد إلا إذا كانت نصوحًا، وقد سبق الدليل على ذلك من كتاب الله, ولا تكون التوبة نصوحًا -عباد الله- إلا إذا ندم العبد على فعل الذنوب ندمًا شديدًا، وأقلع عنها إقلاعًا تامًّا، وعزم في قلبه عزمًا أكيدًا أن لا يعود إليها, فإذا كانت التوبة على هذا الوصف فإنها توبة نصوح، وبذلك تكون مقبولة, وإذا كانت الذنوب والأخطاء تتعلق بحقوق الآدميين، فلابد مع ما سبق من أمر آخر، ألا وهو تحللهم منها، أو طلب العفو منهم عليها، فإن هذا شرط لابد منه, ولا ينبغي للعبد أن يأنف من ذلك أو يستنكف منه، يقول في نفسه: كيف أعيد له ماله؟! وبأي وجه أذهب إليه؟! وكيف أتحلله؟! فإن الواجب -عبد الله- أن تتحلله الآن، وتطلب عفوه اليوم قبل أن تقف أمام الله -جل وعلا- يوم رد المظالم، فما ثَمَّ إلا الحسنات والسيئات.
ولابد -عباد الله- أن تكون التوبة قبل الغرغرة, إما إذا عاين العبد الموت، وشاهد ملائكة الموت فتاب، فإن توبته حينئذ لا تُقبل، كما بين ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله في الحديث الصحيح: "لا تزال توبة العبد تُقبل ما لم يغرغر"، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
وكذلك -عباد الله- فإن باب التوبة مفتوح ما لم تطلع الشمس من مغربها؛ فإنها إذا طلعت تاب الناس أجمعون، ولا تقبل التوبة حينئذ.
عباد الله: والتوبة فريضة واجبة على كل مسلم، يجب المبادرة إليها، ولا يجوز تأخيرها، ومن أخّر التوبة فإن عليه توبتين: توبة من الذنب, وتوبة من تأخيره للتوبة كما بيّن ذلك العلماء.
نسأل الله -جل وعلا- أن يكتب لنا ولكم توبة نصوحًا, اللهم اكتب لنا توبة نصوحًا, اللهم وفقنا للتوبة إليك, اللهم وفقنا للتوبة إليك, اللهم وفقنا للتوبة إليك, اللهم اجعلنا من عبادك التائبين المتطهّرين، ولا تكلنا إلى أنفسنا يا رب العالمين, أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان, وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى, ثم اعلموا -رحمكم الله- أن الدّعوة إلى الله -عز وجل- مطلوبة من كل مسلم، كل بحسبه، وعلى قدر استطاعته، دعوة في البيت للأبناء والأهل، ودعوة للأقارب والجيران, ودعوة للزملاء والخلان، كل بحسب ما يستطيع، دعوة إلى التوبة إلى الله والإنابة إليه والإقبال على طاعته, وسبيل الدعاة -عباد الله- هو سبيل الأنبياء والمرسلين: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) [يوسف: 108]، فهذا سبيل الأنبياء وسبيل أتباع الأنبياء، الدّعوة إلى الله -جل وعلا-، على بصيرة وعلم، وهذا -عباد الله- مطلوب من كل مسلم على قدر استطاعته، وفي حدود ضوابط الشريعة وقواعدها المعلومة.
عباد الله: ووزارة الشؤون الإسلامية تقيم في المدينة في أثناء هذا الأسبوع القادم من اليوم الثامن عشر من هذا الشهر إلى الثامن والعشرين منه معرضًا في المدينة بعنوان "كن داعيًا"، وهو معرض يستهدف توجيه الناس ودلالتهم ووعظهم، وتذكيرهم وتبيين وسائل الدعوة الشرعية على ضوء كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والدعوة -عباد الله- لجميع المسلمين؛ للاستفادة مما يكون في هذا المعرض من توجيهات نافعة وإرشادات سليمة. وإنا لنسأل الله -جل وعلا- أن يوفق القائمين على هذا المعرض إلى خير ما يكون، وإلى أتم ما يكون، على ما يرضي الله -جل وعلا-، وأن يوفق عموم الناس لحسن الاستفادة منه، إن ربي لسميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على إمام التائبين، وقدوة الدعاة، محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي, وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين, اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين, اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه على البر والتقوى، وسدده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والعافية، اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر ذنوب المذنبين من المسلمين، وتب على التائبين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللهم اسقنا وأغثنا, اللهم اسقنا وأغثنا, اللهم اسقنا وأغثنا, اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا، نافعًا غير ضار, اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وديارنا بالمطر، اللهم أغثنا, اللهم أغثنا, اللهم أغثنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العامين, وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.