المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
وَحَرِيُّ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ يَمُرُّ عَلَيْهِ يَوْمٌ لَا يَقْرَأُ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ أَنْ يَحْزَنَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَزِنَ عَلَى فَتْرَةِ الْوَحْيِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِهِ!! فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ الْوَحْيَ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِيَتَغَذَّى بِهِ قَلْبُهُ، وَتَهْتَدِيَ بِهِ نَفْسُهُ، وَيَصْلُحَ بِهِ حَالُهُ، ثُمَّ يُقَصِّرَ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَحْزَنَ عَلَى تَقْصِيرِهِ؟!
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ، الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؛ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ ابْتِلَاءٍ لِأَوْلِيَائِهِ، وَتَمْحِيصًا لِعِبَادِهِ، وَدَارَ غُرُورٍ لِأَعْدَائِهِ (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلِ عِمْرَانَ: 185]، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَنَلُوذُ بِهِ فَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ ابْتِلَاءَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَامَةً عَلَى مَحَبَّتِهِ لَهُمْ "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ"، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ ابْتُلِيَ فِي اللَّهِ -تَعَالَى- بِمَا لَمْ يُبْتَلَ بِهِ أَحَدٌ مِثْلَهُ؛ حَتَّى قَالَ: "لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ" صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الِابْتِلَاءَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا جَادَّةُ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْبَلَاءِ طَرِيقُ الْمُوَفَّقِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 142].
أَيُّهَا النَّاسُ: مَرَّتْ فَتَرَاتٌ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَزِنَ فِيهَا حُزْنًا شَدِيدًا عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ، وَعَلَى تَعْذِيبِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَقَتْلِهِمْ، وَعَلَى فِقْدَانِ النَّصِيرِ مِنَ الْبَشَرِ، وَعَلَى عُسْرِ الْعَيْشِ وَشَظَفِهِ وَشِدَّتِهِ، وَسُجِّلَ فِي سِيرَتِهِ الْعَطِرَةِ مَوَاقِفُ كَثِيرَةٌ لِحُزْنِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ بِعْثَتِهِ.
وَكَانَ أَوَّلَ حُزْنٍ أَصَابَهُ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَأَشَدَّهُ وَأَعْظَمَهُ: حُزْنُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى فُتُورِ الْوَحْيِ بَعْدَ نُزُولِهِ عَلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "... لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا أُوذِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَحَرِيٌّ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ يَمُرُّ عَلَيْهِ يَوْمٌ لَا يَقْرَأُ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ أَنْ يَحْزَنَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَزِنَ عَلَى فَتْرَةِ الْوَحْيِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِهِ!! فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ الْوَحْيَ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِيَتَغَذَّى بِهِ قَلْبُهُ، وَتَهْتَدِيَ بِهِ نَفْسُهُ، وَيَصْلُحَ بِهِ حَالُهُ، ثُمَّ يُقَصِّرَ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَحْزَنَ عَلَى تَقْصِيرِهِ؟!
وَلَمَّا دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ كَذَّبُوهُ، فَحَزِنَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْحُزْنِ؛ لِعِلْمِهِ بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ؛ وَلِأَنَّهُ يُرِيدُ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَعَاقِبَتَهُ مِنَ الْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ؛ حَتَّى خَاطَبَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- يُخَفِّفُ عَلَيْهِ حُزْنَهُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الْأَنْعَامِ: 33].
بَلْ كَادَ حُزْنُهُ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ أَنْ يُهْلِكَهُ، حَتَّى نَهَاهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْ إِهْلَاكِ نَفْسِهِ بِشِدَّةِ الْحُزْنِ (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) [فَاطِرٍ: 8]، وَالْمَعْنَى: لَا تَغْتَمَّ بِكُفْرِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشُّعَرَاءِ: 3]، وَفِي ثَالِثَةٍ: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الْكَهْفِ: 7]. أَيْ: مُهْلِكُهَا غَمًّا وَأَسَفًا عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ أَجْرَكَ قَدْ وَجَبَ عَلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهَؤُلَاءِ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِيهِمْ خَيْرًا لَهَدَاهُمْ، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ إِلَّا لِلنَّارِ، فَلِذَلِكَ خَذَلَهُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا، فَإِشْغَالُكَ نَفْسَكَ غَمًّا وَأَسَفًا عَلَيْهِمْ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ لَكَ.
فَهَلْ تَعْلَمُونَ -عِبَادَ اللَّهِ- أَحَدًا أَشَدَّ نُصْحًا لِأُمَّتِهِ، وَشَفَقَةً عَلَيْهَا مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بِآبَائِنَا هُوَ وَأُمَّهَاتِنَا، كَادَ أَنْ يَمُوتَ أَسَفًا عَلَى ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يُؤْذُونَهُ وَيُعَذِّبُونَ أَتْبَاعَهُ؟!
وَحَرِيٌّ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَحْزَنَ لِكُفْرِ الْكَافِرِينَ، وَنِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَمَعْصِيَةِ الْعَاصِينَ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ الْخَيْرَ لِلْبَشَرِيَّةِ جَمِيعِهَا، وَيَكْرَهُ الشَّرَّ لَهُمْ، وَلَا خَيْرَ أَعْظَمُ مِنَ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ سَعَادَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَفَوْزٌ أَكْبَرُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا شَرَّ أَشَدُّ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ؛ فَهُوَ شَقَاءٌ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابٌ دَائِمٌ فِي الْآخِرَةِ؛ فَأَهْلُ الْإِيمَانِ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ.
لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْزَنُ أَشَدَّ الْحُزْنِ عَلَى مُسَارَعَةِ الْكُفَّارِ فِي كُفْرِهِمْ، وَيَخْشَى ضَرَرَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْتِنُونَ النَّاسَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَكَمْ قَذَفُوا مِنَ الشُّبُهَاتِ لِتَشْكِيكِ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِيمَانِهِمْ، وَرَدِّ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الْإِيمَانِ عَنْ إِقْبَالِهِمْ، وَتَثْبِيتِ أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى كُفْرِهِمْ؟! وَكَمْ عَذَّبُوا الْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ وَعَلَى صُخُورِهَا؟ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يُحْزِنُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَهَاهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ –سُبْحَانَهُ- أَنَّ عَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ -تَعَالَى- وَلَا دِينَهُ شَيْئًا (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آلِ عِمْرَانَ: 176].
وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ أَشَدَّ خَطَرًا عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَكِيدُونَ لِلْأُمَّةِ مِنْ دَاخِلِهَا؛ وَلِأَنَّ الْيَهُودَ أَقْدَرُ عَلَى قَذْفِ الشُّبُهَاتِ وَالتَّشْكِيكِ فِي دِينِ اللَّهِ -تَعَالَى- مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ الْمُنْغَمِسِينَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ. وَهُمُ الَّذِينَ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ، وَأَخْفَوْا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَيَنْقُلُونَ مَا سَمِعُوا فَيُكَذِّبُونَهُ عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ، وَيَقْذِفُونَ فِيهِ شُبُهَاتِهِمْ لِصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْزَنُ لِذَلِكَ أَشَدَّ الْحُزْنِ؛ حِرْصًا عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَخَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَخَشْيَةً مِنْ تَأْثِيرِ الْمُضِلِّينَ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ بِصَدِّهِمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ -تَعَالَى-.
وَمَا أَعْظَمَهُ مِنْ نَبِيٍّ حِينَ يَخَافُ عَلَى مَنْ يُعَادُونَهُ الْعَذَابَ، وَيَرْجُو لَهُمُ الْهِدَايَةَ، وَيَخَافُ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الْإِيمَانِ بِسَبَبِهِمْ، فَنَهَاهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكُمُ الْحُزْنِ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ لَنْ يَهْتَدُوا؛ لِفَسَادِ قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّ الْعَذَابَ يَنْتَظِرُهُمْ، وَكَانَ هَذَا الْبَيَانُ الرَّبَّانِيُّ بِصِيغَةِ النِّدَاءِ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالرِّسَالَةِ؛ لِيَكُونَ أَقْوَى فِي الْبَيَانِ؛ وَلِتَعْظِيمِ جَنَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ وَلَوْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُعَانِدُونَ وَأَتْبَاعُهُمْ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الْمَائِدَةِ: 41].
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُلْهِمَنَا رُشْدَنَا، وَأَنْ يَكْفِيَنَا شُرُورَ أَنْفُسِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ دُعَاةِ الْحَقِّ، وَهُدَاةِ الْخَلْقِ، وَأَنْ يَرُدَّ عَنَّا كَيْدَ الْكَائِدِينَ، وَمَكْرَ الْمَاكِرِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ فِي التَّقْوَى نَجَاةً مِنَ الْحُزْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْحُزْنُ الْأَبَدِيُّ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْ صَاحِبِهِ (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الْأَعْرَافِ: 35 - 36].
أَيُّهَا النَّاسُ: كَانَتْ تَعْتَرِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْوَالٌ مِنَ الْحُزْنِ، وَيُصِيبُهُ أَنْوَاعٌ مِنْهُ؛ فَكَانَ يَحْزَنُ بِسَبَبِ افْتِرَاءِ الْمُكَذِّبِينَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَيُسَلِّيهِ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي كُلِّ مَقَامٍ يَحْزَنُ فِيهِ بِآيَاتٍ تُثَبِّتُهُ وَتَرْبِطُ عَلَى قَلْبِهِ، وَتَجْلُو حُزْنَهُ (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[يُونُسَ: 65]؛ أَيْ: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُ الْمُكَذِّبِينَ فِيكَ، وَقَدْحُهُمْ فِي دِينِكَ؛ فَإِنَّ أَقْوَالَهُمْ لَا تُعِزُّهُمْ، وَلَا تَضُرُّكَ شَيْئًا (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) يُؤْتِيهَا مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُهَا مِمَّنْ يَشَاءُ.
وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْزَنُ عَلَى مَا يَحِيكُونَهُ مِنْ مَكْرٍ، وَمَا يُدَبِّرُونَهُ مِنْ كَيْدٍ ضِدَّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَيَضِيقُ صَدْرُهُ بِذَلِكَ، فَنَهَاهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ الْحُزْنِ، وَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ؛ فَالْقَدَرُ بِيَدِهِ –سُبْحَانَهُ- لَا بِأَيْدِيهِمْ، وَقُدْرَتُهُ فَوْقَ قُدْرَتِهِمْ، وَقُوَّتُهُ تَغْلِبُ قُوَّتَهُمْ، وَهُوَ –سُبْحَانَهُ- مُحِيطٌ بِمَكْرِهِمْ (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)[النَّحْلِ: 127].
وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْزَنُ لِمَا يَرَى مِنْ حُسْنِ مَعَايِشِهِمْ، وَبَسْطِ الدُّنْيَا عَلَيْهِمْ، رَغْمَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَنَهَاهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ الْحُزْنِ (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [الْحِجْرِ: 88]؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا حَصَّلُوهُ مِنْ زُخْرُفِهَا؛ فَإِنَّمَا هُوَ فِتْنَةٌ لَهُمْ؛ كَمَا قَالَ –سُبْحَانَهُ-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 131].
وَيَسْتَفِيدُ الْمُؤْمِنُ مِنْ نَهْيِ اللَّهِ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْحُزْنِ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِأَنْ لَا يَحْزَنَ حُزْنًا شَدِيدًا يَفْتِكُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُقْعِدُهُ عَنِ الْعَمَلِ لِدِينِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، كَمَا لَا يَفُتُّ فِي عَضُدِهِ أَوْ يُضْعِفُ قُوَّتَهُ اتِّهَامَاتُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ؛ فَقَدْ جَرَى ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مِنْهُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَسَلَّحَ بِالصَّبْرِ فِي مُوَاجَهَةِ افْتِرَاءَاتِهِمْ وَادِّعَاءَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ. وَلَا يَغْتَرَّ بِعُلُوِّ الْكُفَّارِ وَسَبْقِهِمْ فِي مَجَالَاتِ الدُّنْيَا رَغْمَ عِنَادِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ فِتْنَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- لَهُمْ، وَمَكْرِهِ –سُبْحَانَهُ- بِهِمْ، وَالْإِمْدَادِ لَهُمْ فِي غَيِّهِمْ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُمْ لَمْ يُفْلِتْهُمْ.
وَإِذَا حَزِنَ الدُّعَاةُ عَلَى وَاقِعِ النَّاسِ الْمُؤْلِمِ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ حَزِنَ قَبْلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا حَزِنُوا عَلَى أَقْوَالِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَمَكْرِهِمْ بِهِمْ فَإِنَّ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ حَزِنَ قَبْلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا حَزِنُوا عَلَى تَمَكُّنِ دُوَلِ الْكُفَّارِ فِي الْأَرْضِ، وَسَبْقِهِمْ فِي عُلُومِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ حَزِنَ قَبْلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَذَهَبَ كُفْرُ الْكَافِرِينَ وَمَكْرُهُمْ، وَعَزَّ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَ، وَبَلَغَتْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْجَاءَ الْأَرْضِ، وَكَانَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَعْلَمَ وَأَحْكَمَ حِينَ نَهَى نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ.
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...