العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة - الأديان والفرق |
فدهش الملك من فطنته، وزادت هيبته في نفسه!، ثم جرى بينهما كلام حول شيء من عقائد النصارى فكان مما قاله أحد أساقفة الملك: ما تقولون في زوجة نبيكم ؟ يريد أن يعرض بعائشة -رضي الله عنها- حينما رماها المنافقون بالزنا !؛ فقال الباقلاني على بديهته: هما امرأتان مريم وعائشة ذكرتا بسوء فبرأهما..
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: مناظرة عجيبة، وقصة من قصص التاريخ يرسم بطلها عزة للمسلم فريدة؛ فحق على كل من علمها أن يبتهج بها، وحق على من وقف عليها أن يرويها ويحدث بها ! اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر؛ فما أحوجنا لاسترجاع شيء من ماضينا المجيد، وسنوات عزنا التليد، لنسترد شيئاً أضعناه وقد كان بأيدينا، به سدنا الأمم، وهابتنا الدول؛ به عرفنا ديننا الذي ارتضاه لنا ربنا، (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]، بعد أدركنا حقيقته، (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج: 78].
والرجال مواقف، وحدث عن ألف حديث، والأفعال أصدق إنباء من الأقوال! وقد كان زمن هذا الحدث في القرن الرابع من الهجرة إذن في زمن دب الوهن في دولة الإسلام الدولة العباسية، وبدأ التنصل من سلطانها، وتفكك أطرافها وتسلط الأعداء على المسلمين، وقد وصف الذهبي تلك الفترة؛ فقال: "هاجت نصارى الروم وأخذوا المدائن، وقتلوا وسلبوا"، ولكن العزة في الإسلام، وللمسلمين ما استمسكوا بدينهم.
والقصة تروي هروب أحد قادة الروم على خلاف بينهم ولجأ إلى خليفة المسلمين في العراق المسمى بعضد الدولة؛ فأرسل أمراء الروم إلى خليفة المسلمين أن يسلمهم هذا القائد المنشق، ولكن خليفة المسلمين لم يشأ أن يسلمهم من لجأ إليه، وتحايل عليهم، وأبقى القائد الهارب عنده، واستقر رأيه أن يبعث إلى ملك الروم من يفاوضه في الموضوع مقابل أن يطلق أسارى المسلمين الذين عند الروم؛ فاجتهد خليفة المسلمين في الرجل الذي يبعثه من يكون؟ فوقع اختياره على أحد أذكياء علماء المسلمين في ذاك الوقت، وقد اجتمع في هذا العالم سعة العلم والدهاء وسرعة البديهة!
قال عنه شيخ الإسلام: "هو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، وليس فيهم مثلُه ولا قبلَه ولا بعدَه"؛ فمن يكون هذا؟ إنه أبو بكر الباقلاني العابد صاحب الورد بالليل، والتأليف بالنهار؛ فاحفظ اسمه فهو صاحب القصة العجيبة، والمناظرة الغريبة.
وقع الاختيار عليه ليبلغ الرسالة السياسية في أمر أسرى المسلمين والرسالة الدينية في ضلال النصارى، وتهافت دينهم، وبراءة المسيح عيسى بن مريم منهم، وتجهز أبو بكر الباقلاني للذهاب إلى ملك الروم، ووصل إلى ملك الروم بالقسطنطينية وقالوا له: لا تدخل على الملك حتى تنزع خفافك، وعمامتك، وتصلح حالك؛ فأبي أبو بكر ذلك، وقال إنما أدخل كما أنا!، وهذا ذل لا أقبله ولا أجعل قومي يتحدثون به، وقد أعزنا الله بالإسلام؛ فإن أبيتم فخذوا الكتاب الذي معي واقرؤه ثم ردوا عليَّ جوابه !؛ فأخبر الملك بمقالته؛ فكبر في عينه، وهابه ثم أذن له بالدخول.
وكان من عادة الروم إذلالُ الناس بين يدي ملوكهم فلا يدخل أحد إلا وقد حنى ظهره تعظيماً للملك، ثم يقبل الأرض بين يديه!، وقد أدرك الملك أن هذا الرسول من المسلمين لن يفعل ذلك، وخشي أنه يفسد رعيته عليه بامتناعه عن الخضوع؛ فتحيل لذلك فوضع عرشه الذي يجلس عليه للمُلك خلف باب صغير لا يمكن أن يدخل الداخل منه إلا وقد طأطأ رأسه لأجل قصر الباب!، ثم أذن للقاضي فلما أقبل القاضي على الباب ورأى قصره فطن أن هذه من حيلهم ليلزموه بالخضوع للملك وطأطأة رأسه بين يديه!
ولكن من رحمة الله أن دهاء الكافرين له ما يفوقه من دهاء المسلمين، وحيلة صنعت لإذلال العباد، لها ما يدفعها من حيلة تحفظ للمسلمين أن لا يذلوا إلا لرب العباد؛ فكان من بديهته وحسن تصرفه أن أدار القاضي أبو بكر ظهره للباب ثم حنى ظهره راكعا ودخل على قفاه يمشى إلى الخلف مولياً دبره جهة ملكهم حتى وصل إليه ثم رفع رأسه وانتصب قائماً ثم أدار وجهه إلى الملك؛ فدهش الملك من فطنته، وزادت هيبته في نفسه!، ثم جرى بينهما كلام حول شيء من عقائد النصارى؛ فكان مما قاله أحد أساقفة الملك: ما تقولون في زوجة نبيكم ؟ يريد أن يعرض بعائشة -رضي الله عنها- حينما رماها المنافقون بالزنا !؛ فقال الباقلاني على بديهته: هما امرأتان مريم وعائشة ذكرتا بسوء؛ فبرأهما الله مما قيل فيهما.
وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد، ومريم ليست ذات زوج وجاءت بولد؛ يريد بذلك أن براءة عائشة أظهر من براءة مريم وكلاهما بريء بتبرئة الله لهما -رضي الله عنهما-؛ ثم لم يزل الباقلاني في ضيافتهم معجبين بعزته وبداهته حتى جاءت المناظرة الملجمة للنصارى إلى يومنا هذا؛ يقول الباقلاني: ثم إن الملك دعاني إلى محفل عظيم اجتمع فيه كبار بطارقتهم في يوم زينة عيدهم.
وجاء كبير البطارقة القيم على دينهم في آخر القوم الحاضرين وبين يديه أتباعه يتلون الأناجيل، والمباخر عن يمينه وشماله في هيئة حسنة وتعظيم متكلف!؛ فاستقبله الملك متبركاً به، وأجلسه الملك على سريره إلى جنبه!، ثم التفت الملك إلى القاضي أبي بكر وقال: هذا كبير البطارقة وسيد النحلة؛ فقم فسلم عليه!؛ فقال إليه القاضي وسلم عليه وبالغ في الاحتفاء به ثم كان من دهائه أن سأله عن حاله وحال زوجه وأولاده!
والبطارقة لا يتزوجون وينكرون أن يكون لهم أولاد أو زوجات ويرون ذلك لا يليق بمقامهم وعيب في أوصافهم، ولذا تغيرت وجوه الحاضرين ونخروا نخرة المستنكرين، وعابوا على القاضي سؤاله، وقال له الملك: إننا ننزه هؤلاء عن الصاحبة والولد!، وهذا ما يريد أن يصل إليه القاضي أبو بكر -رحمه الله-؛ "فقال سبحان الله تنزهون الإنسان عن الصاحبة والولد، وتنسبون إلى رب الإنسان الصاحبة والولد"؛ فما كان من الملك ومن معه إلا أن بهتوا من سرعة بديهته، بل ومن قوة حجتهم؛ فما كان من البطارقة إلا أن أشاروا على الملك أن يعجل في قضاء حاجة هذا الرسول ويرده إلى قومه قبل أن يفسد على الناس نصرانيتهم؛ فيتمردوا على الملك ويخرجوا عن طاعته؛ فأغدق عليه الهدايا، ودفع معه بعض الأسرى من المسلمين وأمر بإحراجه حيث جاء، (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [المؤمنون: 91 -92].
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
عباد الله: فإن من أعظم ما فيه قصة الباقلاني مع بطارقة النصارى معرفة تلك العقيدة المتهافته التي تورط بها النصارى حيث جعلوا لله ولداً وهذا الولد هو جزء من ثلاثة أجزاء في حقيقة إلههم في عقيدة التثليث تلك العقيدة التي لم يفهمها النصارى أنفسهم وتعددت مقولاتهم في شرحها وتصويرها للعالم؛ حتى قال أحد عقلاء القساوسة من النصارى إنهم يتمنون أن يتخلصوا من عقيدة التثليث في الإله ولكنهم إذا أنكروها بعد هذه الشهرة سوف تهتز ثقة العامة بالنصرانية كلها!، ثم تناقضهم حينما يعظمون الصليب الذي زعموا أن المسيح قتل وصلب عليه لينقذ البشرية بهذا الصلب.
وغير هذا كثير ومع ذلك يحتفل العالم الكافر وبعض سذج المسلمين بعيد المسيح أو بعيد رأس السنة الميلادية أو الكريسمس، وما بني على باطل فهو باطل، والواجب على المسلم أن ينظر أين يضع قدمية في هذه السنوات الخداعة التي تسير كثيراً الناس فيها وسائل الإعلام ورضي كثير منهم بالتبعية لأعدائهم؟.
وفي زمن ضعف الأمة والركون إلى الدنيا والاطمئنان بها يتفنن الناس في لبس ثوب المذلة؛ فمنهم تبلغ ثوب مذلته إلى كعبيه ومنهم إلى حقويه ومنهم من تلجمه الذلة إلجاماً.
ومنهم من تغرقه المذلة فهو يصارعها ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فيصدق فيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا" (رواه مسلم).
فاستمسكوا -رحمكم الله- بدينكم واعلموا أن الله خلقنا لعبادته، وجعلنا خير أمة أخرجت لعباده، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110].
وكان فيما أنزل علينا، قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:1 - 4].
وقد أبرأ علماء المسلمين ذمتهم من قديم الزمان حينما حذروا من مشاركة النصارى وغيرهم أعيادهم الكفرية بأي نوع مشاركة لا ببطاقات تهنئة ولا بأطباق طعام أو حلوى فضلا عن حضور حفلات ومشاركة في طقوس وأهازيج وإيقاد شموع ونحو ذلك.
فتنبهوا -رحمكم الله- ونبهوا من قد يخفى عليه الأمر من العمال ومدراء الشركات، وأصحاب المطاعم، وكذا من أبنائنا الطلاب المبتعثين إلى دول النصارى لدراسة أو غيرها.
بصرنا وإياكم بديننا، وأعاد الله للمسلمين عزتهم، ورزقهم التمسك بعقيدتهم، والغيرة على شريعتهم وأخلاقهم.
وصلوا وسلموا..