القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الأديان والفرق |
ولما عتا بنو إسرائيل عن أمر ربهم، وعصوا رسلهم؛ سلط الله عليهم ملكاً من الفُرْسِ يقال له: بختنصر، فدمَّر بلادهم، وبددهم قتلاً وأسراً وتشريداً، وخرّب بيت المقدس للمرة الأولى.. ثم اقتضت حكمة الله -عزَّ وجل- بعد انتقامه من بني إسرائيل أن يعودوا إلى الأرض المقدسة، وينشئوا نشأً جديداً، كما قال الله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) [الإسراء: 6].. فسلط الله عليهم بعض ملوك الفرس، أو الروم مرة ثانية، فاحتلوا بلادهم، وأذاقوهم العذاب وخرَّبوا بيت المقدس، كما قال الله تعالى: (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) [الإسراء: 7].
الخطبة الأولى:
الحمد لله إن الله سبحانه وتعالى قد ذكَّر بني إسرائيل بنجاتهم من فرعون وملئه، بقوله عزَّ وجل: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة: 49]، وذكَّرهم بها نبيهم موسى -صلى الله عليه وسلم- فقال: كما حكى الله -عزَّ وج- عنه في قوله تعالى: (يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) [المائدة : 20]، يعني: في وقتهم، وأمرهم بجهاد الجبابرة الذين استولوا على الأرض المقدسة، وبشرهم بالنصر حيث قال لهم موسى -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر عنه ربه -عزَّ وجل- في قوله تعالى: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) [المائدة: 21]، وإنما كتبها الله لهم؛ لأنهم في ذلك الوقت أحقُّ الناس بها؛ حيث إنهم أهل إيمان وصلاح وشريعة قائمة، ... ولكن بني إسرائيل نكلوا عن الجهاد، وقالوا لموسى -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر الله -عزَّ وجل- عنهم في قوله تعالى: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) [المائدة: 22]، وقال الله -عزَّ وجل- عنهم حينما قالوا لموسى -صلى الله عليه وسلم-: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24]، فنكلوا عن الجهاد، ومواجهةِ عدوهم، ونابذوا رسولهم بهذا الكلام المنكر، فلما فعلوا ذلك "حرَّم الله عليهم الأرض المقدسة، فتاهوا في الأرض ما بين مصر والشام؛ أربعين سنة لا يهتدون سبيلاً، حتى مات أكثرهم أو كلهم، إلا مَن وُلدوا في التيه" فمات في التيه هارون وموسى -عليهم الصلاة والسلام- وخلفهما يوشع فيمن بقي من بني إسرائيل من النشء الجديد، وفتح الله عليهم الأرض المقدسة وبقوا فيها، حتى آلَ الأمرُ إلى داود وسليمان -عليهما السلام- فجدد بناء بيت المقدس، وكان يعقوب قد بناه قبل ذلك.
ولما عتا بنو إسرائيل عن أمر ربهم، وعصوا رسلهم؛ سلط الله عليهم ملكاً من الفُرْسِ يقال له: بختنصر، فدمَّر بلادهم، وبددهم قتلاً وأسراً وتشريداً، وخرّب بيت المقدس للمرة الأولى.
ثم اقتضت حكمة الله -عزَّ وجل- بعد انتقامه من بني إسرائيل أن يعودوا إلى الأرض المقدسة، وينشئوا نشأً جديداً، كما قال الله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) [الإسراء: 6]، فنسوا ما جرى عليهم، وكفروا بالله ورسله، قال الله -عزَّ وجل-: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) [المائدة: 70]، فسلط الله عليهم بعض ملوك الفرس، أو الروم مرة ثانية، فاحتلوا بلادهم، وأذاقوهم العذاب وخرَّبوا بيت المقدس، كما قال الله تعالى: (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) [الإسراء: 7].
كل هذا بسبب ما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله -عزَّ وجل- وبرسله، قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام: 129]، ثم بقي المسجد الأقصى في أيدي النصارى والروم من قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بنحو ثلاثمائة سنة، حتى أنقذه الله -تعالى- من أيديهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، فصار المسجد الأقصى بأيدي أهله حقاً، ووارثيه حقاً، وهم المسلمون، كما قال الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].
فبقي في أيدي المسلمين حتى استولى عليه النصارى من الفرنج أيام الحروب الصليبية؛ في الثالث والعشرين من شهر شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من الهجرة 492هـ فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل، وقَتَّلوا المسلمين، بل قتلوا من المسلمين نحو ستين ألفاً، ودخلوا المسجد، واستولوا على ما فيه من ذهب وفضة، وكان يوماً عصيباً على المسلمين، أظهر النصارى شعائرهم في المسجد الأقصى، فنصبوا الصليب، وضربوا الناقوس، وحَلَّت فيه عقيدة: إن الله ثالث ثلاثة، وعقيدة: إن الله هو المسيح ابن مريم، وعقيدة: المسيح ابن الله، وهذا واللهِ! من أعظم المحن، وبقي النصارى في احتلال المسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة، حتى استنقذه الله -عزَّ وجل- من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب -رحمه الله- في سبع وعشرين من رجب، عام ثلاثة وثمانين وخمسمائة، 583هـ، فكان فتحاً مبيناً، ويوماً عظيماً مشهوداً، أعاد فيه إلى المسجد الأقصى كرامتَه، وكَسَّر الصلبان، وأعلنت فيه عبادة الواحد الديان.
ثم إن النصارى أعادوا الكرَّة على المسلمين؛ فضيَّقوا على الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين، فصالحهم على أن يعيد إليهم بيت المقدس، ويخلوا بينهم وبين البلاد الأخرى، وذلك في ربيع الآخر، سنة ست وعشرين وستمائة 626هـ فعادت دولة الصليب على المسجد الأقصى مرة أخرى، واستمرت النصارى عليه، كما قال الله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) [النساء: 47].
حتى استنقذه منهم الملك الصالح أيوب سنة أربع وأربعين وستمائة؛ 644هـ. وبقي في أيدي المسلمين.
وفي ربيع الثاني من عام سبعة وثمانين وثلاثمائة وألف 1387هـ 1967رومي احتلَّ اليهود أعداءُ الله ورسوله؛ بمعونة أعدائهم النصارى بيتَ المقدس، ولا يزال في أيديهم وتحت سيطرتهم، ولم يتخلوا عنه إلا بفتحٍ إسلاميٍّ حقيقيٍّ، وقد قالت رئيسة دولتهم حينذاك فيما بلغنا: إن كان من الممكن أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب؛ فليس من الممكن أن تتنازل عن أورشليم القدس.
نعم! لن تتنازل اليهود عن القدس إلا بالقوَّة، ولا قوَّةَ إلا بنصرٍ من الله عزَّ وجل، ولا نصرَ من عند الله إلا إذا نصرناه، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].
وإن النصرَ لنْ يكونَ بالأقوالِ البراقة العنتريَّة، والخطبِ الرنانة، التي تحوِّل القضيةَ إلى قضية سياسية، وهزيمة ماديَّة إقليميَّة، إنه لا يمكن النصرُ إلا أن نقومَ بدين اللهِ على الوجه الذي يرضاه عنَّا: أن نحكُمَ بشريعة الله، وأن نأمرَ بالمعروف، وننهى عن المنكر، كما أمرنا الله -عزَّ وجل- في قوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].
وأخيراً إن كان ابن القيم -رحمه الله– عَجِب من تلاعبِ الشيطان ببني إسرائيل، عندما عبدوا العجل، وكيف أنهم اختاروا أبلد الحيوانات، وأقلَّها دفعًا عن نفسه، بحيث يُضْرَبُ به المثلُ في البلادة والذُّل، فجعلوه إلهًا.
فإنه يحق لنا أن نعجبَ من تسميتهم لهذا الكنيس الذي بنوه مؤخَّرًا بـ"الخراب"، وليس الإعمار! وكأنهم يشيرون -من حيث لا يشعرون- لمغبَّةِ وعاقبةِ .. مساسِهم بمقدسات المسلمين، وهي خراب دولتهم، كما وصف الله عز وجل حال أسلافهم مع رسول الله -صلى عليه وسلم- فقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر: 2].
كيف يكون إيقافُ اليهودِ عند حدِّهم؟ والأخذُ على أيدهِم ولجمِهم؟
وما السبيل إلى استردادِ ما استلبوه، وإعادة ما اغتصبوه؟
هل ذلك يكون بغزوهم بالصراخ والعويل، والشجب والاستنكار؟
هل يكون جهادُهم -لاستخلاصِ حقوقنا- بالخُطَبِ وإثارةِ النعرات، أو بالاجتماعات والمؤتمرات؟
وهل قصَّر المسلمون في الصراخ والعويل، والشجب والاستنكار؟ وهل تأخروا عن الخطب والانتفاضات؟ وهل تخاذلوا عن الاجتماعات والمهرجانات والمؤتمرات؟
والجواب: لم يقصروا في ذلك كلِّه، فماذا كانت النتيجة؟ لا قدسًا تحررت، ولا شبابا أُعتقت، بل زادت أعدادُ الأراملِ واليتامى والفقراء، وتضاعفت أعداد البيوت المهدمة، والأراضي المدمرة، والأشجار المقتلعة.
وفي المقابل؛ رَبِح اليهودُ تأييدَ العالم، وزادَ إغداقُ الأموالِ عليهم، وبدون زعيقٍٍ ولا نهيقٍ؛ يبنون ما شاؤوا من الهياكل والكُنس، وبدون مظاهراتٍ ولا خطاباتٍ، يستولون على ما يريدون من مساجد وأوقافٍ للمسلمين ومقدسات، كلُّ ذلك على سُكات وخُفات.
إذن؛ ما هو الطريقُ الصحيحُ والسبيلُ السويُّ للمخرج من هذه الأزمات، وتيك المُلِمَّات؟ والجواب في قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160]، وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].
اجمعوا أيها المسلمون: ما شئتم من جنود من دون الرحمن، وجيِّشوا ما استطعتم من جيوش دون الله سبحانه، فهل سننتصر بذلك؟ لا والله! (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ) [الملك: 20].
إننا إذا نصرنا الله تعالى [بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصدُ بذلك وجهَ الله،..] السعدي. فإذا فعلنا ذلك؛ نصرَنا الله وأيَّدَنا وثبت أقدامنا. [ولقد صدق ابن المعتز حين قال: الملك بالدين يبقى، والدين بالملك يقوى.
إن الأمَّة مهما حلَّ بها من البلاءِ والنكبات، والجمودِ والانحطاط؛ فلن تنحطَّ جميعُها عن مرتبةٍ وسطى من مراتب التمكين، وهي "الظهور" وعدمُ الاكتراث بالمخالف، فهذه المرتبة من التمكين مضمونة للأمَّة، لا يمكن أن تنعدمَ منها يومًا واحدًا على مدى السنين، بل تبقى طائفةٌ منهم في شرق أو غرب؛ تحافظ على عنوان المجد في تلك المرتبة.
إن المُلْكَ جائزٌ في شرعنا عند تعذُّر الخلافة، وأحيانًا بل غالبًا يكون أليق بحال الأمة من الخلافة، إذ يكون به قوام الناس كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "قِوَامُ أُمَّتِى بِشِرَارِهَا" (قَالَهَا ثَلاَثًا)، رواه (أحمد) عن مَيْمُونُ بْنُ سُنْبَاذَ، "فالملوك الظَّلمةُ بهم قِوامُ الأمة، وتقويمُ اعوجاجات كثيرة"، يعني القائمون بأمر الأمَّة وهم أمراؤها؛ وهم شرار الأمة غالبا، لقلة الاستقامة، وكثرة الجور منهم، .. أو أن المعنى إن قِوامها يعني استقامتُها وانتظام أحوالها؛ يكون بشرارها، فيكون من قبيل خبر: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" وخبر: "إن الله يؤيد هذا الدين برجال ما هم من أهله"].
فالملك جائز سائغ في شرعنا في جملته، سواء كان الحاكم صالحًا، أو معتديًا ظالمًا، أو بين ذلك، فلا بد للناس من حكومةٍ؛ ظالمةً كانت أو عادلةً، فالظالمةُ رغم ظُلْمِها؛ تأمنُ بها السبل، ويُهاب بها الأعداء من الدول الطامعة.
واعلموا عباد الله: أن الملوكَ الصالحين قِلَّةٌ في تاريخ الأمم جميعًا.
إن قوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، المقصود هنا المؤمنون الخُلَّص، المتجردون لله، أما أهلُ التسمِّي والتحلِّي والادِّعاء، ومن شابت إيمانهم الشوائبُ؛ فلا يتناولهم هذا الوعدُ في الآية، وليس مضمونًا لهم وإن قاتلوا الكفار.
واعلموا أيضا أن سورةَ العصرِ قاعدةٌ مُحكمةٌ في التمكين، وامتناعِ الخسران عن بني الإنسان، اشتملت على ست خصال؛ لا تجتمع في طائفة فتلحقها خسارة أبدًا، وما لحق بأي طائفة من خسران أو هزيمة؛ فبتفريطٍ منها في خصلة من تلك الخصال وهي: 1- الإيمان. 2- العمل الصالح. 3- الجماعة، لقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر: 3]، 4- وجود مبدأ التواصي لقوله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 3]5، - التواصي بالحق وهو شرائع الدين 6- التواصي بالصبر.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
إنَّ تبليغَ الدعوةِ واستقصاءَ مجالاتِ النُّصحِ الصادق؛ له دَورٌ في تمكين دعوةِ الحق، وإهلاك أعدائها، تبليغ الدعوة فقط دون غيره! ولقد ذكر القرآن عدةَ أمَمٍ لم يجاهدوا، ولم يفعلوا شيئًا تجاه الكفار؛ إلا البلاغُ والمداومةُ عليه، حتى أهلكَ اللهُ أعداءهم، مثل أمَّةِ نوح المؤمنة، وأمة صالح وهود -عليهم الصلاة والسلام-.
ولا بد من التنبيه على شيء مهمٍّ وعند القدرةِ عليه؛ فعلى أولياء الأمور إعدادُ الجيوشِ وتعبئتُها واستعراضُها، وتفقُّدُها وتنظيمُها، كلُّ تلك الأمورِ أشار إليها القرآن، في مملكة نبي الله سليمان -عليه الصلاة والسلام- وجعل تلك الخصائص من مزايا الدولةِ المؤمنة، المُمَكَّن لها في الأرض، والتي تسعى إلى نشر دعوة الحق، وتمكينِها جاهدةً في كل أصقاع الأرض، حتى لامَ وعاتبَ الهدهدَ ملكَها، حين لم يبلُغْ علمُه دولةً مشركةً بالله تعيش في الأرض معه: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل: 22]، ولا بد من ديمومةِ الضراعةِ إلى الله، والالتجاء إليه في طريق السعي للتمكين، فهو عامل من عوامل النصر، عاملٌ يجب الحرصُ عليه، والعنايةُ به أكثر من دراسة مخططات الأعداء، وأساليب المواجهة.
إنّ مَنْعَ تطبيقِ شريعة الإسلام؛ ليس ظلمًا للمسلمين، أو حرمانًا للبشرية فحسب؛ بل يتعدى إلى الجنايةِ على حشائشِ الأرض، ومخزونِ الأمطارِ والسباعِ في الغاباتِ، والطيورِ في الأعشاش، وكلِّ الدوابِّ وحتى الجمادات، وذلك يتبين عند تمامِ إقامةِ الدين؛ إذ يمكِّن الله للإنسان من معايشِ الأرض، فتُخرِج الأرضُ بركتَها، وتَيْنَِع ثمرتُها، ويسُودُ الأمان، ويرعى الذئبُ الغنمَ، ويحصلُ من التغيراتِ في السلوكِ والكائناتِ والمخلوقاتِ ما لا يخطر ببال، وقد حصل ذلك مرارًا في تاريخ الإسلام؛ حين أقامت دولةُ الإسلامِ الدين، فضلا عما تكون فيه الدولة بسبب إقامة الدين؛ من العزِّ والامتناع، والسَّنَاء والتمكِّين، الذي لا يدانيه سلطانٌ في الأرضِ ألبتة...].
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأَذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، الظالمين المعتدين، واجعل بلدنا هذا آمناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل صالح أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.
واعلموا -رحمكم الله- أن خير الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة -في دين الله- بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، فاجتمعوا على سنة الله ولا تتفرقوا فيها؛ فإن مَن شذَّ عن الجماعة شذَّ في النار، وأكثروا من الصلاة والسلام على نبيكم محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يعظمْ اللهُ لكم بها أجراً، وامتثلوا أمر الله -تعالى- في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].