الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
تحقيق التوحيد تهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع القولية الاعتقادية، والبدع الفعلية العملية، ومن المعاصي، ويكون بكمال الإِخلاص لله في الأقوال والأفعال والإِرادات، وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد، ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله، وبالسلامة من البدع التي تقدح في التوحيد، والمعاصي التي تنقص التوحيد وتمنع كماله، وتعوقه عن حصول آثاره
الحمد لله، ذي البطش الشديد، يبدئ ويعيد، وهو الغفور الودود، ذي العرش المجيد، فعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الحميد، الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى التوحيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة وسلامًا لا يزالان على الجديدين في تجديد.
أما بعد:
فيا -أيها المسلمون-: اتقوا الله؛ فإن تقواه خير عاصم من القواصم، وخير مانع من المصارع والقوامع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: كرَّم الله -عز وجل- ابن آدم وشرفه، وخلقه في أحسن الهيئات وأكملها؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70]، وقال -سبحانه وتعالى- في الآية الأخرى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين: 4].
فهو -سبحانه- رب الخلق أجمعين، المتصرف فيهم المدبر لشئونهم، وهم عبيد له، قال تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا).
والعبودية لله -عز وجل- على قسمين: الأول منها: عبودية عامة، وهي لجميع المخلوقات؛ برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم؛ فهم تحت قهر الله -سبحانه- ومشيئته، قال تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) [مريم:93].
الثاني: من أنواع العبودية: عبودية خاصة؛ وهي لأتباعه، كما قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر: 36].
في الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي".
نهى -صلى الله عليه وسلم- عن إطلاق ربوبية إنسان لإنسان، كقول المملوك لسيده: "ربي"؛ لأنَّ الله هو الرب المالك المتصرف.
أو إطلاق عبودية إنسان لإنسان كقول: "عبدي وأمتي"؛ لأن الله هو المعبود وحده لا شريك له.
فالتلفظ بهذه الألفاظ من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد؛ لأنها تُوهم الشرك، وفيها إساءة أدب مع الله -سبحانه-.
وأرشد -صلى الله عليه وسلم- إلى اللفظ السليم الذي لا إيهام فيه، فيعدل المملوك عن قول: "ربي إلى قول: سيدي ومولاي"، ويعدل السيد عن قول: "عبدي وأمتي" إلى قول: "فتاي وفتاتي وغلامي"، وهذا حماية منه -صلى الله عليه وسلم- للتوحيد، وحفاظًا على العقيدة.
أنّ الواجب على العبد التأدب مع الله -سبحانه-، وذلك بالبعد عن الألفاظ التي توهم الشرك.
وأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجماد فلا يمنع منه، كقوله: "رب الدار، ورب الدابة".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأما الشرك فنوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندًا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: (تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 97 - 98] مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده، خالق كل شيء ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة، كما هي حال أكثر مشركي العالم.
بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله، وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون إذا انتقص أحد معبودهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وإذا انتقص حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها.
بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئًا رضوا عنه ولم تنكر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا منهم نحن وغيرنا، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه: إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على لسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسليته إليه، وهكذا كانوا هم وعُباد الأصنام سواء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي لا يحول سلطانه ولا يزول، مستو على عرشه وباقٍ في ملكه وعروش الملوك دونه تتبدل والمماليك تدول، ثم إليه الخلائق بعد ذلك ترجع وتـئول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وحده الخالق المسئول، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير نبي وأكرم رسول، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
أيها المسلمون: تحقيق التوحيد تهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع القولية الاعتقادية، والبدع الفعلية العملية، ومن المعاصي، ويكون بكمال الإِخلاص لله في الأقوال والأفعال والإِرادات، وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد، ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله، وبالسلامة من البدع التي تقدح في التوحيد، والمعاصي التي تنقص التوحيد وتمنع كماله، وتعوقه عن حصول آثاره.
فمن حقق توحيده بأن امتلأ قلبه من الإيمان والتوحيد والإِخلاص، وصدقته الأعمال بأن انقادت لأوامر الله طائعة منيبة مخبتة إلى الله، ولم يجرح ذلك بالإِصرار على شيء من المعاصي، فهذا الذي يدخل الجنة بغير حساب، ويكون من السابقين إلى دخولها وإلى تبوُء المنازل منها.
ومن أخص ما يدل على تحقيقه: كمال القنوت لله وقوة التوكل على الله، بحيث لا يلتفت القلب إلى المخلوقين في شأن من شئونه، ولا يستشرف إليهم لقلبه، ولا يسألهم بلسان مقاله أو حاله، بل يكون ظاهره وباطنه، وأقواله وأفعاله وحبه وبغضه، وجميع أحواله كلها مقصودًا بها وجه الله، متبعًا فيها رسول الله.
والناس في هذا المقام العظيم درجات: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ) [الأنعام: 132]، وليس تحقيق التوحيد بالتمني ولا بالدعاوي الخالية من الحقائق، ولا بالحلي العاطلة، وإنما ذلك بما وقّر في القلوب من عقائد الإِيمان وحقائق الإِحسان، وصدقته الأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة الجليلة.
جعلني الله وإياكم ممن حقق التوحيد، وفاز برضا رب العالمين.
هذا، وصلوا وسلموا.