الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | راشد البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
إن هذا الرجل العظيم سيرته حافلة طويلة؛ فماذا نأخذ وماذا نذر؟! ولكن لنتناول جانبًا واحدًا عجيبًا من سيرة الصِّدِّيق -رضي الله عنه-؛ إنه جانب بكائه ورقة قلبه، وحبه العميق للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وإليكم ثمانَ مواقفَ رقيقةً باكية لهذا الصِّديق الأكبر...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[التوبة:36].
فسيكون الحديث عن الأواب التواب، عن التقي بل الأتقى كما سماه ربه الأعلى، (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى)[الليل:17] إنه أفضل رجل في هذه الأمة، بل في الدنيا بعد الأنبياء، إنه أبو بكر الصِّدِّيقُ -رضي الله عنه-. قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: "كَانَ السَّلَفُ يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ حُبَّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا يُعَلِّمُونَ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ"(أخرجه الطبري في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة).
إن هذا الرجل العظيم سيرته حافلة طويلة؛ فماذا نأخذ وماذا نذر؟! ولكن لنتناول جانبًا واحدًا عجيبًا من سيرة الصِّدِّيق -رضي الله عنه-؛ إنه جانب بكائه ورقة قلبه، وحبه العميق للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وإليكم ثمانَ مواقفَ رقيقةً باكية لهذا الصِّديق الأكبر -رضي الله عنه-:
الموقف الأول: في صحيح البخاري: "لَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ أراد أَبُو بَكْرٍ أن يخَرُجَ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فأجاره رجل وجيه اسمه ابْنُ الدَّغِنَةِ. فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ" (رواه البخاري).
الموقف الثاني: بَيْنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- (رواه البخاري)، وفي رواية عند أحمد: ويَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)[غافر:28] ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ.
الموقف الثالث من رقة أبي بكر وفطنته العجيبة: أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ"، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-، قال أبو سعيد: فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟! إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا. فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ"(رواه البخاري). وفي رواية عند أحمد: "ومَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ، مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ". فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!.
الموقف الرابع: صلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالناس المغرب وهو عاصب رأسه، يغالب صداع الرأس وحرارة الحمى، فلما صلَّى غُشي عليه، وأُذِّن للعشاء، وعلم أنه لن يستطيع الخروج إليهم فقال: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ". فقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ؛ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، أَسِيفٌ إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي، فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى القِرَاءَةِ، فَقَالَ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"(رواه البخاري). فصلَّى بهم أبو بكر حتى لحق -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى.
الموقف الخامس: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء أَبَو بَكْرٍ بعد مضي سنة؛ ليحدِّث الناس عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ؛ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي هَذَا الْقَيْظِ عَامَ الْأَوَّلِ: "سَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، وَالْيَقِينَ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى"(رواه أحمد، وإسناده حسن).
الموقف السادس: زار أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ أُمَّ أَيْمَنَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَلَمَّا انْتَهَيْا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالاَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ. فَقَالَتْ: "مَا أَبْكِي أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَهَا" (رواه مسلم).
الموقف السابع: جرح الصحابي الأمير الكبير سعد بن معاذ -رضي الله عنه- جرحًا غائرًا في الخندق، فرفع سعد يديه إلى الواحد الأحد، فَقَالَ: "اللهُمَّ إِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ فَأَبْقِنِي أُجَاهِدْهُمْ فِيكَ، اللهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَافْجُرْهَا، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِيهَا"، فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ، فَمَاتَ مِنْهَا (رواه مسلم).
حضر -صلى الله عليه وسلم- الدقائقَ الأخيرةَ من حياة هذا البطل الشهيد المجاهد، فحضر ومعه الوزيران الصحابيان الكبيران أبو بكر وعمر. قَالَتْ عائشة: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ بُكَاءَ عُمَرَ مِنْ بُكَاءِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الفتح:29] (رواه أحمد).
الخطبة الثانية:
فهذه النفس الرقيقة اللينة والروح الطاهرة النقية لأبي بكر -رضي الله عنه- تفسر لنا كثيراً من مواقفه العجيبة. ولكنَّ أعجبَها الموقف الثامن التالي:
أخرج أحمد -رحمه الله- بسند حسن عَنْ رَبِيعَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَعْطَانِي أَرْضًا، وَأَعْطَى أَبَا بَكْرٍ أَرْضًا، وَجَاءَتِ الدُّنْيَا، فَاخْتَلَفْنَا فِي عِذْقٍ نَخْلَةٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هِي فِي حَدِّ أَرْضِي، وَقُلْتُ أَنَا: هِي فِي حَدِّي، فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ كَلِمَةً كَرِهْتُهَا، وَنَدِمَ، فَقَالَ لِي: يَا رَبِيعَةُ رُدَّ عَلَيَّ مِثْلَهَا حَتَّى يَكُونَ قِصَاصًا، قُلْتُ: لا أَفْعَلُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَتَقُولَنَّ أَوْ لأَسْتَعْدِيَنَّ عَلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قُلْتُ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ..
فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَانْطَلَقْتُ أَتْلُوَهُ، فَجَاءَ أُنَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ، فَقَالُوا: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَعْدِي عَلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَكَ مَا قَالَ؟ فَقُلْتُ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ هَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَهُوَ ثَانِي اثْنَيْنِ، هُوَ ذُو شَيْبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَإِيَّاكُمْ، يَلْتَفِتُ فَيَرَاكُمٍ تَنْصُرُونِي عَلَيْهِ، فَيَغْضَبُ فَيَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ، فَيَغْضَبُ اللَّهُ لِغَضَبِهِمَا، فَيَهْلِكُ رَبِيعَةُ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: "ارْجِعُوا" فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَتَبِعْتُهُ وَحْدِي، حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ كَمَا كَانَ، فَرَفَعَ إِلَيَّ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "يَا رَبِيعَةُ، مَا لَكَ وَلِلصِّدِّيقِ؟" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِي كَلِمَةً كَرِهْتُهَا، فَقَالَ لِي: "قُلْ كَمَا قُلْتُ لَكَ حَتَّى يَكُونَ قِصَاصًا" فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أَجَلْ فَلا تُرَدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قُلْ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ"، قَالَ: فَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ يَبْكِي.
اللهم لك الحمد كما أنت أهله، لك الحمد بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، لك الحمد على صبرك علينا، وعلى سترك لنا، وعلى برّك بنا، وما وهبتنا من الصحة والمال والأهل والإيمان (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف:43].
اللهم إنا عاجزون عن شكرك، فنحيل إلى علمك وفضلك، فلك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث.
اللهم كف بأس الأشرار وأوهن كيدهم يا حي يا قيوم. اللهم إنا نسألك وصلاح العمل وسلامة الطوية، اللهم حببنا إلى صالح خلقك، وحبب إلينا صالح خلقك.
اللهم أصلح أحوال هذه الأمة، واجعل في قلوب رجالها ونسائها الهمة والصبر والاجتهاد، وخذ بنواصيهم إلى ما تحب وترضى.
اللهم نسألك لولي أمرنا وولي عهده وأمرائه ووزرائه ما فيه خيرهم وخير شعوبهم في معاشهم ومعادهم.