العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أعلام الدعاة |
نحتاجُ اليومَ في ظِلِّ الانفتاحِ على اللُّغاتِ الأجنبيةِ، أن نُربيَّ أبناءَنا على القرآنِ في الصِّغرِ، لأجلِ أن يكونَ هو القاعدةُ التي يُبنى عليها، فإذا أتتْ اللُّغةُ الأخرى اُستثمرتْ في ما هو خيرٌ للإسلامِ والمُسلمينَ، من دعوةٍ إلى الحقِّ، أو علمٍ نافعٍ، أو فُرصةِ عملٍ، وأيضاً الأمنُ من مَكرِ الأعداءِ.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ خلَقَ الإنسانَ ولم يكنْ شيئًا مَذكورًا، أحسَن صورتَه فجعلَه سميعًا بصيرًا، وهداهُ السبيلَ إمَّا شَاكرًا وإمَّا كَفُورًا، نَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له إنَّه كانَ حليمًا غفورًا، ونشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيِّنَا محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، بلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ إنَّه كانَ عبدًا شكورًا، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه رجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدوا الله عليه فكانَ جزاؤهم موفورًا، والتَّابعينَ لهم ومن تبعَهم بإحسانٍ وإيمانٍ وسلَّم تسليماً مزيداً.
أمَّا بعدُ: فإنَّ التَّقوى خيرُ لباسٍ وأفضلُ زادٍ، وأقربُ وسيلةٍ لرضا ربِّ العبادِ، (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الألْبَابِ)[البقرة:197].
موقفٌ من مواقفِ سِيرةِ الحبيبِ، يفوحُ برائحةِ الشَّذا والطِّيبِ، استثمرَ فيها النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- طاقةَ أحدِ الشَّبابِ، ليكونَ مُترجماً أميناً له في مُكاتباتِه لأهلِ الكِتابِ.
وهكذا عندما تُستثمرُ ما في الشَّبابُ من المواهبِ والطَّاقاتِ، فإنَّهم يكونونَ للمجدِ والنَّجاحِ والازدهارِ لَبِناتٍ، وأما احتقارُ الإبداعِ وانتقاصُ القُدُراتِ، فهو عيبٌ عظيمٌ في الآباءِ والأمَّهاتِ، وهو خَللٌ كبيرٌ في المُربينَ والمُربياتِ، ثُمَّ بعدَ ذلكَ نعيبُ الأبناءَ والبناتِ، وكما قالَ أحدُهم:
نَعيبُ شَبَابَنا وَالعَيبُ فينا
ودعونا نَرجعُ إلى موقفِنا الذي نُريدُ.. عَنْ زَيدِ بنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَأَنَا ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، فَذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأُعْجِبَ بِي، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا غُلاَمٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ: يَا زَيْدُ، تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي، قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ".
عبادَ اللهِ: أتعلمونَ ما معنى أن يتعلَّمَ زيدٌ لغةَ اليَهودِ؟ معناهُ الانفتاحُ على حضارةِ اليَهودِ المُحرَّفةِ وثقافةِ الأهواءِ، وتوحيدِ لغةِ الخِطابِ مع اليهودِ أصحابِ المَكرِ والدَّهاءِ، وما قد يُصاحبُ ذلكَ من التَّشكيكِ في الدِّينِ وبثِّ الشُّبهاتِ، وما قد يتعرَّضُ إليه من الرَّشاوى وأنواعِ الإغراءاتِ، لأجلِ أن يبيعَ دينَه ورسولَه ويخونَ الأماناتِ، وهكذا اليهودُ كانوا ولا زالوا بلادَ الجواسيسِ والخِياناتِ.
كلُّ هذه الأخطارِ كانتْ قد تواجهُ هذا الشَّابَ من خلالِ تعلُّمِهِ لغةَ اليَهودِ، ومع ذلكَ أمرَه النَّبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بتعلُّمِها في أسرعِ وقتٍ مع صِغرِ سنِّهِ، فماذا كانَ الحِصنُ الذي يراهُ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- حامياً لزيدٍ -رضيَ اللهُ عنه-؟
تأملوا معي مرةً أخرى هذه الجُملةِ في سِياقِ القِصَّةِ: "فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا غُلاَمٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً"، إذن إنَّه القرآنَ؛ كلامُ القويِّ العزيزِ الرَّحمنِ، إنَّه الحِصنُ الحصينُ من الشَّيطانِ، إنَّه الهُدى والنُّورُ والأمانُ، إنَّه الوسيلةُ العُظمى لثباتِ أهلِ الإيمانِ، فها هو ينزلُ لتثبيتِ قلبِ أعلمِ البشرِ وأتقاهم -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)[الفرقان:32]، ثُمَّ أصبحَ نِبراساً وثباتاً وهُدىً لأهلِ الإيمانِ كافةً، (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل:102]، وكما قالَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "أَبْشِرُواْ، فَإِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ، وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيْكُم، فَتَمَسَّكُواْ بِه، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَهْلَكُواْ، وَلَنْ تَضِلُّواْ بَعْدَهُ اَبَداً".
وكم سافرَ مِن شبابِ المسلمينَ، دونَ قُرآنٍ ولا تَحصينٍ، فذابوا في لغةِ الأقوامِ، وجاءوا بمفاهيمَ تُخالفُ الإسلامَ، أفكارٌ غريبةٌ، واعتقاداتٌ عجيبةٌ، يلوي أحدُهم لِسانَه ليُثيرَ الانتباهَ والأذهانَ، ويحاولُ أحياناً أن يتذكَّرَ معنى الكلمةِ في لغةِ القرآنِ، وهذه جريمةٌ في حقِّ الدِّينِ والوطنِ والمجتمعِ.
أَلْقَاهُ فِي اليَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ
نحتاجُ اليومَ في ظِلِّ الانفتاحِ على اللُّغاتِ الأجنبيةِ، أن نُربيَّ أبناءَنا على القرآنِ في الصِّغرِ، لأجلِ أن يكونَ هو القاعدةُ التي يُبنى عليها، فإذا أتتْ اللُّغةُ الأخرى اُستثمرتْ في ما هو خيرٌ للإسلامِ والمُسلمينَ، من دعوةٍ إلى الحقِّ، أو علمٍ نافعٍ، أو فُرصةِ عملٍ، وأيضاً الأمنُ من مَكرِ الأعداءِ.
معرفةُ زيدٍ -رضيَ اللهُ عنه- للغةِ يهودٍ وقراءةِ رسائلِهم للنَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- والكِتابةِ إليهم، كانَ مقامُ الأمانةِ على أسرارِ الإسلامِ، وهذا مقامٌ لا ينبغي أن يكونَ إلا لأهلِ القرآنِ؛ لأنَّهم يتلونَ قولَه -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)، وقولَه: (وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ)[يوسف:52].
لقد سمعنا كثيراً عمَّن خانوا دينَهم ووطنَهم لأجلِ عَرَضٍ من الدُّنيا قليلٍ، وذلكَ لأنَّ معاني القُرآنِ لم تستقرَّ في قلوبِهم، وإلا ماذا يفهمُ المُسلمُ من قولِه تعالى: (وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الأنفال:71]، فمن أرادَ خيانةَ اللهِ -تعالى- فمصيرهُ الذِّلُ والصَّغَارُ، ولن يكونَ مُحترماً حتى في أعيِّنِ الكُّفارِ.
نَقلَ أحدُّ الخونةِ إلى نابليونَ أسراراً عسكريةً حيويةً عن استعداداتِ جيشِ بلادِه، فاستقبلَها نابليونُ بسُرورٍ، وسَاهمتْ هذه الأسرارُ فيما بعدُ في تحقيقِ الانتصارِ له في الحربِ، وبعدُ الانتصارِ، استقبلَ نابليونُ ذلك الرجلَ بجَفاءٍ، وأخذَ كيساً من المالِ وألقاهُ إليه دونَ أن يَتَرجَّلَ عن ظَهرِ حِصانِه، فقالَ له الخائنُ: لا حَاجةَ بي إلى المالِ، وأُمنيتي هي أن أصافحَ الإمبراطورَ، فقالَ نَابليونُ: من يخونُ وطنَه ويُنافقُ أعداءَه على حسابِ شعبِه، لهُ المالُ فقط، أما يَدُ الإمبراطورِ فإنَّها لا تُصافحُ إلا الأشرافَ المُخلصينَ.
يُخادعني العَدو فلا أبالي
وكذلكَ اليهودُ كانوا هم أهلُ الأسواقِ في المدينةِ، ولذلكَ لمَّا هاجرَ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ -رضيَ اللهُ عنه- إلى المدينةِ سألَ: هلْ من سُوقٍ فيه تِجارةٌ؟، فقالوا له: سُوقُ قَينقَاعٍ، ومعَ أنَّ زيداً -رضيَ اللهُ عنه- كانَ يعلمُ لغةَ أهلِ السُّوقِ، ولكنْ لم تُلهِهِ التِّجارةُ عن المَقصدِ الأسمى، وهو ملازمةُ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وأخذُ العلمِ عنه وما أنزلَ إليه من كتابِ اللهِ -تعالى-، حتى كانَ من أعلمِ النَّاسِ بكتابِ اللهِ -تعالى-، ولذلكَ كلَّفه أبوبكرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- بجمعِ القُرآنِ، وعثمانُ -رضيَ اللهُ عنه- بكتابتِه، حتى رثاهُ حسانُ -رضيَ اللهُ عنه- بقولِه:
فَمَن لِلقَوافي بَعدَ حَسّانَ وَاِبنِهِ
أستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتقينَ، وأُصلي وأسلمُ على أَشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أما بَعدُ:
فيا أهلَ الإيمانِ: يقولُ تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف:2]، فمن قرأَ القرآنَ بقلبِه وتدبَّرَ في آياتِه، عرفَ جمالَ اللغةِ العربيةِ حقَّاً، فتأسرُه بجمالِها، وتأخذُ بتلابيبِ قلبِه، وتتهافتُ أمامَ عينيهِ اللُّغاتِ، يقولُ الدُّكتورُ عبدُ الوهابِ عَزامِ: "العربيةُ لغةٌ كاملةٌ مُحبَّبةٌ عَجيبةٌ، تَكادُ تُصوِّرُ ألفاظُها مَشاهدَ الطَّبيعةِ، وتُمثِّلُ كلماتُها خطراتِ النُّفوسِ، وتَكادُ تَتجلَّى معانيها في أَجراسِ الألفاظِ، كأنَّما كلماتُها خُطواتِ الضَّميرِ، ونبضاتِ القُلوبِ، ونَبراتِ الحَياةِ"، وهذا الذي أَسرَ قلبَ زيدٍ -رضيَ اللهُ عنه- في لغةِ القرآنِ، حتى أنَّه لم يَجدْ بعدَها في لغةِ يهودٍ طعماً ولا لوناً ولا رائحةً.
اسمعوا إلى المستشرقةِ الألمانيةِ زِيغريدَ هُونكه وهي تتكلمُ عن لغةِ القُرآنِ: "كيفَ يَستطيعُ الإنسانُ أن يُقاومَ جمالَ هذه اللُّغةِ ومَنطِقَها السَّليمِ وسحرَها الفَريدِ؟، فجِيرانُ العَربِ أنفسُهم في البلدانِ التي فَتحوها سَقطوا صَرعى سِحرَ تلكَ اللُّغةِ، فلقد اندفعَ النَّاسُ الذينَ بَقوا على دينِهم في هذا التيارِ يَتكلمونَ اللُّغةَ العربيَّةَ بشغفٍ، حتى إنَّ اللُّغةَ القِبطيةَ مثلاً مَاتتْ تمامًا، بل إنَّ اللُّغةَ الآراميةَ لُغةَ المسيحِ قد تَخلَّتْ إلى الأبدِ عن مركزِها، لتحتَلَّ مكانَها لُغةُ محمدٍ" -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.
فيا شبابَ الإسلامِ: لغةُ القرآنِ تشتكي وتُناديكم على لسانِ حافظ إبراهيمَ رحمَه اللهُ قائلةً:
وَسِعْتُ كِتَابَ الله لَفْظَاً وغَايَةً
فكيفَ أَضِيقُ اليومَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ
أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ
أَيُطْرِبُكُمْ مِنْ جَانِبِ الغَرْبِ نَاعِبٌ
فلا تَكِلُوني للزَّمَانِ فإنَّني
اللهمَّ إنا نَسألُك الهُدى والتُّقى والعَفافَ والغِنى، اللهم آتِ نفوسَنا تقواها وزكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها أنتَ وليُّها ومولاها وأنتَ على كلِ شيءٍ قديرٌ.
اللهم إنا نَسألُك البِرَّ والتَّقوى ومن العملِ ما تَرضى، اللهم إنا نسألُك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً، اللهم إنا نعوذُ بك من علمٍ لا ينفعُ ومن قلبٍ لا يخشعُ ومن عينٍ لا تدمعُ ومن دعاءٍ لا يُسمعُ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المجاهدين.