الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عمر السحيباني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
هذه الأجهزة الذكية سلاح ذو حدين؛ إن أحسنا استعمالها عادت علينا بالخير، وحققنا بها العوائد المباركة في ديننا وقيمنا وأخلاقنا وتربيتنا، وإن كانت الأخرى فلا تسأل عن أنواع المفاسد، والضياع في الدين والخلق، والأضرار الجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: فوق كوكب الأرض وفي سمائنا الفسيحة آلات وتقنيات، وموجات وذبذبات استطاع ابن آدم في إيجادها بعد إعانة من خالقه -سبحانه وتعالى-.
تقنيات تعددت استخداماتها، وتطورت تطوراً مذهلا للعقول، ومحيراً للألباب، ومنبأ عن عظيم الخالق الموجد -سبحانه- القائل: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85].
إن هذه التقنيات شاهدة على فضل الله على بني آدم وتسخيره هذا الكون بما فيه لهم: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية: 13].
لقد غدت تلك التقنيات جزءًا من عالمنا، وحاجة من حاجات حياتنا، أجهزة ذكية، ووسائل تواصل واتصال؛ فيها منافع للناس، وفيها مفاسد ومصائب، وآثام وآفات.
فهذه الأجهزة الذكية سلاح ذو حدين؛ إن أحسنا استعمالها عادت علينا بالخير، وحققنا بها العوائد المباركة في ديننا وقيمنا وأخلاقنا وتربيتنا، وإن كانت الأخرى فلا تسأل عن أنواع المفاسد، والضياع في الدين والخلق، والأضرار الجسمية والنفسية والاجتماعية.
أيها الإخوة في الله: إن الناس إزاء هذه الأجهزة الذكية والتقنية الجديدة أصنافٌ مختلفة، فمن الناس من ملكت وقته تلك الأجهزة حتى أسرت عقله، وأشغلت فكره، وربما ألهته عن بعض مصالحه، بل ربما أفسدت عليه دينه، وكم هم أولئك الذين يسهرون على تلك الأجهزة سهراً يعقبه نوم وحسرة عن صلاة الفجر في وقتها مع جماعة المسلمين؟ وكم هم أولئك الذين أشغلتهم تلك الأجهزة عن مواصلة حبيب أو قريب، ومؤانسة والد أو والدة حتى غدت بعض الجلسات والاجتماعات اجتماعات مكانية جسدية، والأرواح تهيم في كل واد وترحل في كل اتجاه؟ وكم هم أولئك الذين يستعملون تلك الأجهزة عند حضور الصلاة في المساجد فيحرم نفسه قراءة القرآن وذكر الله في بيوت الله؟ وكم أولئك الذين يستعملون تلك الأجهزة أثناء قيادة السيارة فينتج عن ذلك أنواع المخاطر والحوادث؟
ومن الناس من فتنته هذه الأجهزة فكانت مصيدته للنظر للمفاتن والعورات، ولسماع الخنى والغنى وما لا يليق، وجرته إلى حيث سعار الجنس وثورة الشهوات، والسقوط في الهوى والحب والغرام والمراسلات الخانعة، فكم أفسدت تلك الأجهزة من قلوب، وأمرضت من نفوس، وأقلقت من أعصاب؟ وكم فشت بسبب تلك الأجهزة من خيانات زوجية، وتدمرت بسببها من حياة أسرية هنية؟
ومن الناس من سلم فكره وقلبه لتلك الأجهزة فمال حيث مالت، وتغيرت نظراته وأفكاره حيث وجهته تلك المواقع والمقاطع.
وهذا -أيها الإخوة- هو أخطر الأخطار، وأعظم الأضرار، حين يفتن الإنسان عن دينه، ويشكك في قيمه ومبادئه، بسبب النظر والسماع لقوم مجهولين أو مبتدعة أو معروفين ببغض أهل الخير والدين.
ومن الناس من أفقدته هذه الأجهزة عقله وصوابه، فأمسى يستره الله -تعالى- ثم يصبح يكشف ستر الله عليه، يجاهر بالفحش من القول والعمل، فقد الدين والحياء والمروءة والعافية، في المتفق عليه: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين".
ومن الناس من سخر هذه الأجهزة في نشر الفضائح وهتك الأستار، متعجل لا يتورع عن إشاعة كل رذيلة، بل ربما يسابق إلى ذلك ويحبه، وكأنه لم يسمع قول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19].
لقد أضحت بعض مواقع التواصل الاجتماعي مناخاً خصباً لضعيفي الإيمان، وناقصي العقل والمروءة لصناعة ونشر وترويج الأكاذيب، والوقيعة في أعراض العامة والخاصة، من المسؤولين وعموم المسلمين حتى بلغت تلك الأكاذيب الآفاق، وإنه لا يخفى على عاقل كم تجر تلك الشائعات المغرضة من الويلات والعداوات التي تفتك في الأفراد والمجتمعات، والتي تنزع الثقة بين الناس، وتنشر الكراهية والضغائن، وتوغر الصدور، وتسبب القلاقل والاحتراب والثورات والفتن، وقد رَأَى النَّبيُّ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- في مَنَامِهِ رَجُلاً يعذب بطريقة مهينة حيث يُشَرشَرُ شِدقُهُ إِلى قَفَاهُ وَمَنخِرُهُ إِلى قَفَاهُ وَعَينُهُ إِلى قَفَاهُ، فَلَمَّا سَأَلَ عَنهُ المَلَكَينِ قَالا لَهُ: "إِنَّهُ الرَّجُلُ يَغدُو مِن بَيتِهِ فَيَكذِبُ الكَذبَةَ تَبلُغُ الآفَاقَ" (رَوَاهُ البُخَارِيُّ)، وفي الحديث الصحيح قال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال" (وردغة الخبال عصارة أهل النار).
ألم يسمع مروجو الأكاذيب قول الباري -سبحانه-: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كرامًا كاتبين * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الإنفطار: 10 - 12]؟
أم لم يقرؤوا قوله سبحانه: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36]؟
وفي الحَدِيثِ الصحيح: "بِئسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا"، بل جاء في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كَفَى بِالمَرءِ كَذِبًا أَن يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ".
وما من كاتب إلا سيفنى | ويبقي الدهر ما كتبت يداه |
فلا تكتب بكفك غير شيء | يسرك في القيامة أن تراه |
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة في الله: إن في هذه الأجهزة من المنافع ما لا يمكن حصره فهي لغة العصر الحديث في تحصيل كثير من العلوم والمعارف، وهي وسيلة الإعلام المعاصرة، وهي كما قيل: رفيقُ الوَحدة، وأداةُ الإنقاذ والنجدة، وهي رسول أمين، ينقل الأفكار والمشاعر، ويصل الإنسان برحمه، ويتواصل مع أحبابه، وينشر فيها الخبر الهادف والحكمة والموعظة، وغير ذلك من المنافع المعروفة.
إن وجود الأجهزة في أيدي الصغار ليس شراً محضاً إذا كان ذلك بتوجيه وإشراف ومتابعة لبرامجها المتنوعة وتطبيقاتها المختلفة.
أما إهمال الصغار مع تلك الأجهزة؛ فإنها مع مرور الزمن تؤثر سلباً على أجسامهم من خلال ضعف البصر، وتقوس الظهر، وربما أورثت بعضهم أمراضاً نفسية عدوانية، وأمراضاً سلوكية مشينة، وخللاً في الفكر والتدين، وربما أدت إلى ضعف التحصيل العلمي والدراسي، وربما قللت الجلوس مع الوالدين والأهل، ونتج عن ذك العزلة والانكفاء الشخصي، وضعف القدرة على التواصل مع الآخرين، والحديث معهم مباشرة، هذا فضلا عن تنمية التمرد الخلقي، وضعف الوازع الديني، وظهور الانحراف الفكري، والفراغ الروحي، وربما جر ذلك إلى مرحلة الإدمان، وضياع الوقت.
إن الواجب على الوالدين تربية الأبناء على الأخلاق الحميدة والقيم المجتمعية عن طريق الإقناع والحوار الهادف، مع محاولة الإشراف والمراقبة غير المباشرة في معرفة ميول الأبناء، والتعامل معهم بحكمة وهدوء، وتشجيعهم على الخير، وتحذيرهم من الشر برفق ولين ورحمة.
وأعظم ما يغرس في نفوس الأبناء: تنمية الرقابة الذاتية، والخوف من الله الجليل: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16].