الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
وقد بلَغ رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- القمة في توكله على ربه، ولعل من أوضح الأمثلة في حياته موقفه حينما كان في الغار؛ فعن أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي الْغَارِ-: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: "مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أمر عباده المؤمنين بالتوكل عليه فقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)[المائدة:23]، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي وعد من يتوكل عليه بأنه حسبه وكافيه قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق:3]، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الذي أمره خالقه أن يتوكل عليه فقال: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)[النمل:79] صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وتوكلوا على ربكم؛ فالتوكل من أعمال القلوب، وهي عبادة لا يجوز صرفها لغير الله، وهي اعتماد القلب على الله وثقته به، وأنه حسبه وكافيه، واليقين بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا ينفع ولا يضر إلا الله -سبحانه وتعالى-.
وقد أمر الله -جل وعلا- بهذه العبادة قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران:159]، وقال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)[النساء:81].
وأخبر سبحانه أنه نِعْمَ الوكيل، قال تعالى: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران:173]، وقال تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)[النساء:81]، وقال تعالى: (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)[الإسراء:65].
أيها المؤمنون: وبَيَّن الله -جل وعلا- في كتابه أن التوكل عليه من صفات المؤمنين الصادقين قال تعالى: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[العنكبوت:59]، وقال تعالى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الشورى:36].
وهو من صفات أنبياء الله -جل وعلا- قال تعالى عن نوح -عليه الصلاة والسلام-: (فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ)[يونس:71]، وقال عن موسى -عليه الصلاة والسلام- قوله لقومه: (يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)[يونس:84]، وقال عن يعقوب -عليه الصلاة والسلام-: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ)[يوسف:67].
وقد بلَغ رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- القمة في توكله على ربه، ولعل من أوضح الأمثلة في حياته موقفه حينما كان في الغار؛ فعن أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي الْغَارِ-: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: "مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"(رواه البخاري).
ولله دُر ابن القيم -رحمه الله- حيث يقول: "التوكل على الله من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم"، ويقول أيضا: "التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة".
عباد الله: والتوكل مطلوب في كل شئون الحياة، لكن هناك مواطن يتأكد فيها؛ ولذا جاء الأمر به للرسول -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين معه؛ فمن هذه المواطن:
1- عند طلب النصر والفرج ينبغي اللجوء إلى الله والتوكل عليه.
2- إذا أعرض عنك الخلق فاعتمد على التوكل على الله (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)[التوبة:129].
3- إذا عظم مكر الأعداء، واشتد بلاؤهم؛ فعلى المؤمن أن يدخل في أرض التوكل، ويلجأ إلى مولاه -سبحانه-.
4- إذا أراد المؤمن أن ينال محبة الله، ويكون في الفردوس الأعلى من الجنة - فعليه بالتوكل على الله.
5- إذا أراد المؤمن أن يأمن من كيد الشيطان وبأسه - فعليه بالتوكل على الله، وصدق الله العظيم (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[النحل:99].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وتأملوا معي قول الله -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران:173-174]؛ ففي هذه الآية بيان لشيء من فوائد وثمرات التوكل وهي كثيرة أذكر منها:
1- أن التوكل من كمال الإيمان وحسن الإسلام.
2- أنه يجلب محبة الله ونصره وتأييده.
3- يحفظ صاحبه من شر شياطين الإنس والجن.
4- يقطع طمع صاحبه مما في أيدي الناس؛ لأنه يتوكل على الله الذي بيده الدنيا والآخرة.
5- يكسب صاحبه راحة البال واستقرار الحال، ولا يمنع من الأخذ بالأسباب المشروعة.
6- يحقق لصاحبه رضا الله وسعة الرزق، ومصاحبة النبيين في الجنات.
7- والتوكل على الله طريق السعادة؛ فأسعد الناس في هذه الحياة هم المتوكلون على الله حق توكله.
عباد الله: وبعض الناس يدعي التوكل على الله، ولا يأخذ بالأسباب المشروعة، وهذا تواكل وليس توكلاً، بل هو عجز محض، ولا ينبغي للمؤمن أن يجعل توكله عجزاً ولا عجزه توكلاً، بل يتوكل على الله ويأخذ بالأسباب ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على الله الذي أمر بالأخذ بها.
وثمة مظاهر يلمسها المسلم في حياة الناس تدل على عدم التوكل على الله؛ ومن ذلك: التخوف الذي يصل إلى درجة الهلع والرعب من انتشار معلومات عن بعض الأمراض أو المصائب التي تحل في بعض المجتمعات، وترى بعض الناس يظهر عليه القلق والخوف، ويستولي عليه التفكير السلبي الذي لا يقدم ولا يؤخر، ولو فكر قليلاً لعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن كل شيء عند الله بأجل مسمى.
الآجال مضروبة، والأعمار محدودة، وأقدار الله -سبحانه- نافذة، والعاقل من يبذل الأسباب ويلجأ إلى الله الذي بيده كل شيء من أمر الدنيا والآخرة، وصدق الله العظيم (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)[الطلاق:2-3].
عباد الله: كم من مريض يظن أهله أنه في عداد الموتى، لكن الله شفاه وعافاه، وصلى هو على كثير ممن كانوا يظنونه في عداد الموتى، وكم من صحيح معافى وافاه أجله من غير مرض! إنها أقدار الله -جل وعلا- الذي له الأمر من قبل ومن بعد لا معقب لحكمه، وهو على كل شيء قدير.
فالجأوا إليه -أيها المؤمنون-، وتوكلوا عليه، واحذروا من الغفلة والتسويف؛ فخزائن ربكم ملأى لا تعجزه النفقة، يده سحاء تنفق الليل والنهار، وهو الغني الكريم.
اللهم اجعلنا ممن يتوكلون عليك حق التوكل.
عباد الله: هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].