الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهنا |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
الحذر من إحراج المتَّصَل عليه، كأن يَمْتَحِنَ المتَّصِلُ المتَّصَلَ عليه بقوله: هل تعرفني؟ ثم يأخذ في المماطلة فلا يذكر اسمه إلا بعد لأيٍ، وهذا -مع كراهة الناس له- مكروه في الشرع، جاء في الصحيحين عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه أتى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فطرق الباب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من هذا؟" قال جابر فقلت: أنا؛ فخرج وهو يقول: " أنا أنا!" ..
أيها المسلمون: فحديثنا في هذه الخطبة حول موضوع طريف ظريف، ألا وهو: أدب الهاتف الجوال.
وقد تكلم بعض الفضلاء من أهل العلم قبل خروج الجوال على الهاتف وآدابه، وما يجب وما ينبغي أن يراعى في ذلك، وعلى رأس أولئك الشيخ العلامة الدكتور بكر أبو زيد، عضو هيئة كبار العلماء السعودية -رحمه الله-، حيث ألف كتابه الماتع: (أدبَ الهاتف).
ولا ريب أن الهاتف بعامَّة، والجوال منه بخاصة، نعمةٌ كبيرة يقضي بها الإنسان حاجاته بأقرب طريق، وأيسر كُلفة.
بيد أن هناك أموراً تنافي شكر هذه النعمة، ومحاذيرَ ينبغي معرفتُها، وملحوظاتٍ يحسن التنبه لها، والتنبيه عليها، حتى تتم الفائدةُ المرجوَّةُ من هذه النعمة، ولكي لا تكون هذه النعمة سبباً في جلب الضرر على أصحابها.
فمما يحسن بيانه في هذا الباب ما يلي:
أولاً: إن الله -عز وجل- أمر بالقصد ونهى عن السرف في كل شيء، حتى في الأكل والشرب، ولا شك أن الاقتصاد في المكالمات داخلٌ في هذا الأمر من باب الأولى والأحرى؛ حتى لا تحصل الخسارة المالية بدون داع، ولأجل ألا يتأذى الإنسان ويضيع وقته من جراء الإطالة.
وعلى هذا فإنه يحسن بالمُتّصِل أن يقتصد في كلامه، وأن يتجنب التطويل في المقدمات والسؤال عن الحال.
وينبغي أن يحذر من كثرة الاتصالات، وأن يحذر فضول الكلام في المهاتفة، فإن بعض الناس قد يمتد به الحديث ساعات وساعات.
ثانياً: الحذر من إحراج المتَّصَل عليه، كأن يَمْتَحِنَ المتَّصِلُ المتَّصَلَ عليه بقوله: هل تعرفني؟ ثم يأخذ في المماطلة فلا يذكر اسمه إلا بعد لأيٍ، وهذا -مع كراهة الناس له- مكروه في الشرع، جاء في الصحيحين عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه أتى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فطرق الباب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من هذا؟" قال جابر فقلت: أنا؛ فخرج وهو يقول: " أنا أنا!" كأنه كره منه عدم إفصاحه عن اسمه.
ثالثاً: مراعاة حال المتصَل عليه، والتماس العذر له؛ فقد يكون مريضاً، أو في مكان لا يسمح له بالتفصيل، كأن يكون في مسجد، أو مقبرة، أو بين أناس لا يود أن يقطع حديثهم، أو نحو ذلك؛ فإذا لم يرُدّ، أو رَدَّ رَدَّاً مقتضباً، أو كانت الحفاوة أقل من المعتاد، فعلى المتصل أن يلتمس له العذر، وألا يسيء به الظن.
كما يحسن بالمتَّصَلِ عليه أن يخبر المتَّصِل فيما بعد، أو يرد عليه رداً سريعاً يبين من خلاله أنه في مكان لا يسمح له بالحديث؛ فذلك أسلم للقلوب، وأبعد لها من الوحشة والنفرة، قال -عز وجل- (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء:53].
رابعاً: إغلاق الجوال، أو وضعه على الوضع الصامت، أو الرنة الواحدة الهادئة عند دخول المسجد؛ وذلك لئلا يشوشَ على المصلين، ويقطعَ عليهم خشوعهم وإقبالهم على صلاتهم.
فإن نسي فلم يغلقْه أو يضعه على الصامت فليبادر إلى إغلاقه وإسكاته إذا جاءه اتصال؛ لأن بعض الناس يدعه يرن فلا يُغْلِقُهُ خوفاً من حدوث الحركة في الصلاة، والذي ينبغي لهذا أن يعلم أن تلك الحركة لمصلحة الصلاة، بل لمصلحة المصلين عموماً.
كما ينبغي أن نلتمس العذر لمن نسي إغلاقَ جوالِه أو وَضْعَهُ على الصامت، وألا نشدد النكير عليه، والنظر شزراً إليه، خصوصاً إذا كان ممن لم يتكرر منه هذا الأمر، أو كان ممن يُخشى نُفُورُه عن المسجد، أو كان فاضلاً نسي؛ فلا يحسن إحراجه وتبكيتُه.
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة حينما لَطُف بالأعرابي الذي بال في المسجد، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعوه، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء؛ فإنما بعثتم مُيَسِّرين، ولم تبعثوا مُعَسِّرين".
رابعاً: ينبغي على العاقل أن يراعي أوضاع المجالس، فلا يتصل أو يردّ إذا كان في مجلس علم أو ذكر أو في مجلس يسوده الجد، ويتكلم فيه متكلم واحد، أو أن يكون في ذلك المجلس من يَكْبُره في السن والقدر؛ لأن الاتصال أو الرد يقطع الحديث، ويكدر على الحاضرين، وينافي أدب المحادثة والمجالسة، قال أبو تمام في صفة رجل:
وتراهُ يُصْغِي لِلْحديثِ بِسَمْعِهِ | وبِقَلْبِهِ ولَعلَّهُ أدرَى بِهِ |
ومن جملة ذلك أن يتحدث الرجل إليك ويبالغ في توجيه الحديث نحوك، فإذا جاءك اتصال قطعت كلامه وبادرت بالرد غير آبهٍ به.
وأقبح منه أن تكون أنت المتحدث ومن حولك مصغون إليك مقبلون عليك، ثم يفاجئون بأنك عند أول اتصال ترد على الاتصال وتردُّ بالجالسين.
وقد يُغْتَفَرُ الاتصال أو الرد إذا كان في الأمر ضرورةٌ، أو حاجةٌ يُخشى فواتُها، مع ضرورة الاستئذان -ولو بشكل سريع- ممن حولك، ويحسن في ذلك ترك التطويل.
ويُغتَفَر -كذلك- إذا كان الإنسان في مجلس إخوانه أو أصدقائه الذين يطرح الكلفةَ بينهم، أو الذين لم يسترسل حديثهم.
خامساً: ومن المحاذير المنتشرة، وضع الجوال على مكبر الصوت بحضرة الآخرين دون علم المتكلم، وأشد من ذلك تسجيل المكالمة من دون علمه لإسماعها أو نشرها، وهذا العمل ممقوت شرعاً وعقلاً وخُلُقاً، خصوصاً إذا كان الحديث خاصاً أو سِرِّياً ؛ فإنه يكون ضرباً من الخيانة، أو نوعاً من النميمة.
قال الشيخ العلامة الدكتور بكر أبو زيد -حفظه الله-: فإذا سجلت مكالمته دون إذنه وعِلْمِه فهذا مكر وخديعة، وخيانة للأمانة. قال -صلى الله عليه وسلم- : "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صُبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة" أخرجه البخاري، والآنك: الرصاص المذاب.
سادساً: مراعاة أدب الرسائل؛ فالجوال يشتمل على هذه الخدمة المهمة، والذي يليق بالعاقل أن يراعي الأدب في الرسائل؛ فإذا أراد أن يرسل رسالة فلتكن جميلة معبرة أو مُبَشِّرة، أو مُعَزِّية، أو مسلية، أو أن تكون مشتملة على ذكرى، أو حكمة، أو موعظة، أو مَثَلٍ سائر أو نحو ذلك.
ومن العجائب ما يصدر من بعض العقلاء من تبادل رسائل إشعار الحب والغرام التي يتفق المرسل والمرسل إليه أنها لا تناسب الحال، نعم قد يصح بعضها في بعض الأحوال، أما أكثر تلك الرسائل فليست إلا مضيعة للوقت والمال.
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الشأن ما يكون في بعض الرسائل من التواصي بأمر من الأمور، دون نظر إلى مشروعيته، أو نشر حديث دون معرفة صحته من ضعفه، وهذا الأمر قد ينقلب على صاحبه فيقع في الإثم من حيث يريد الثواب، وذلك بنشره لبدعة أو حديث ضعيف أو موضوع.
سابعاً: على المسلم أن يراعي خصوصيات غيره، ومما ينبغي الإشارة إليه التحذير من النظر في جوالات الآخرين واستعراض الرسائل دون رضاهم، فذلك من كشف الستر، ومن التطفل المذموم، بل هو ضرب من ضروب الخيانة، وباب من أبواب سوء الظن؛ لأن الناظر في رسائل جوال غيره ربما رأى رسالة ففهمها على غير وجهها، أو ظن أنها أرسلت إلى امرأة أجنبية وقد يكون صاحب الجوال أرسلها إلى زوجته.
وقد تكون الرسالة وردت إليه وهو لم يرض بها، فيسيء الناظرُ الظنَّ في صاحبه وهو براء من ذلك؛ وهذا يؤكد التنبيه على حفظ الجوال، وعدم إلقائه بين الآخرين، ويوجب أن يحرص العاقل على حذف ما ورده من الرسائل التي لا تليق، صيانة لنفسه من التهمة.
هذه وقفات سبعٌ إنما هي لَبِنَاتٌ حسنات لموضوعٍ من موضوعات الآداب، والآداب باب واسع مُشْرَعٌ لمن أراد الزيادة المفيدة، نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، اللهم آمين.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: ثمة خطأ مزعج انتشر بانتشار الجوالات وتَفَنُّنِ أصحاب المحلات في تقديم الخدمات التي يرتضيها عملاؤهم من غير نظر في حِلّ تلك الخدمات أو حرمتها.
إنه انتشار النغمات الموسيقية في جوالات كثير من الناس لاسيما من الشباب، وهذا والله من البلاء، إذ إن الجوال يشتمل في العادة على نغمات عادية عديدة كنغمة الجرس ونحوها، ومع ذلك يعمد كثيرٌ من الشباب إلى اختيار النغمات الموسيقية، وربما زاد بعضهم نغمات أخرى من غير جهازه، بل وربما اختار نغمة أغنية فلان أو فلانة أو اعتمد الأغنية برمتها نغمة له، وهذا كله محرم في شريعة الله، والأدلة على ذلك أشهر من أن تخفى على طالب الحق.
وقد أنكر ذلك طائفة من علماء الزمان منهم علماء اللجنة الدائمة للإفتاء، وفتواهم بتحريم هذا الأمر المحدث منشورة مشهورة.
عباد الله: ويزداد الأمر سوءاً عندما يظهر هذا المنكر في أحب البقاع إلى الله، في مساجد المسلمين التي حقها الرفع ومزيد الإكرام والاحترام، كما أخبرنا ربنا وأمرنا في سورة النور بقوله: (فِيِ بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أنْ تُرفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) [النور:36]، فوا عجَباً من مسلم جاء طائعاً لله، راجياً فضله ورحمته ومغفرته، ثم هو بتفريطه يتجاسر على حرمات الله بنشر المنكر في بيت الله، وفي شعيرة من شعائر الله!.
فطهِّروا -يا عباد الله- مساجدكم ومجالسكم وأسماعكم مما لا يُرضي الله، وتعاونوا على الحق، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أسأل الله أن يرزقنا شكر نعمته، ويعيننا على ذكره وحسن عبادته...