الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المهلكات |
إن من الناس من تعودوا وجود النعمة وألفوها؛ فهم تحت تأثير هذا الإلف وهذه العادة قد ينسون قدر هذه النعمة عليهم؛ لأنها دائما حاضرة بين أيديهم، ولأجل ذا فقد نسينا نعمة الماء؛ فليتخيل أحدنا فقْد هذه النعمة ولو لزمن يسير، حينها يعلم أن فضل الله علينا بها عظيم، وأن فقدها خطر جسيم، أو دعونا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد: فإن نعم الله على الإنسان لا يحدها حد، ولا يحصيها عد ولا يستثنى من عمومها أحد؛ فهي نعم عامة سابغة تامة، يقول سبحانه وتعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[النحل:18]، ويقول جل شأنه: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمان:20].
ومن أجل نعم الله على الإنسان وأعظمها -وكلها جليلة وعظيمة- نعمة المــاء وكيف لا والماء مصدر الحياة؟ يقول الله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)[الأنبياء:30]، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "كل شيء خلق من ماء".
إن الماء عصب الحياة ورد ذكره في القرآن الكريم في تسع وخمسين آية، كلها تشير إلـى أهميته تحدث القرآن عن المياه نازلة من السماء أو خارجة من الأرض أو مختزنة فيها لوقـت الحاجة، يقول الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ)[الزمر:21]، ويقول جل شأنه: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ)[المؤمنون:18].
إنه لولا الماء ما كان إنسان وما عاش حيوان وما نبت زرع أو شجر؛ فمن الماء يشرب الإنسان ومنه يخرج المرعى، وبه تكسى الأرض بساطا أخضر؛ فتبدو للناظرين أجمل وأنظر، يقول الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل:10-11]، ويقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأنعام:99].
أيها الأخوة: إن من الناس من تعودوا وجود النعمة وألفوها؛ فهم تحت تأثير هذا الإلف وهذه العادة قد ينسون قدر هذه النعمة عليهم؛ لأنها دائما حاضرة بين أيديهم، ولأجل ذا فقد نسينا نعمة الماء؛ فليتخيل أحدنا فقْد هذه النعمة ولو لزمن يسير، حينها يعلم أن فضل الله علينا بها عظيم، وأن فقدها خطر جسيم، يقول الله -تعالى-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)[الملك:30].
أو دعونا نتصور الماء ملحا أجاجا، حينها نعلم أن عذوبة الماء نعمة إلهية، ومنحة ربانية تستوجب حمد الله وشكره، وتسبيحه وذكره، يقول الله -تعالى-: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة:68-70].
إن الماء في مكان الصدارة من النعم التي يسأل عنها العبد يوم القيامة، وهو من النعيم المقصود في قول الله -تعالى-: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[التكاثر:8]؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك بدنك ونروك من الماء البارد؟"(حديث صحيح رواه الترمذي).
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حفيا بنعمة الله يعظمها ويشكرها، وما أكثر الدعوات التي كان يدعو بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يفرغ من طعامه إذا طعم وشرابه اذا شرب، فكان إذا فرغ من طعامه وشرابه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا من المسلمين". وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- إنه إذا شرب الماء قال: "الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا".
إن هذه البشاشة التي يستقبل بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعمة الماء وشكر مسديها الأعلى -جل شأنه- لها أعظم دلالة على أهمية هذه النعمة العظيمة.
أيها الأخوة: إن هذا الماء جند من جنود الله جعله الله عذابا لأمم مكذبين؛ فغدا طوفانا عم الأرض وعلا قمم الجبال، ولم ينج منه إلا نوح -عليه السلام- وأصحاب السفينة.
وكان لسبأ وأهلها الذين كانوا في نعمة عظيمة، أرزاقهم واسعة وزروعهم وافرة، وثمارهم طيبة؛ فأعرضوا عن الهدى ولم يوحدوا الله بالعبادة ويشكروا نعمه -كان عقابا عاجلا حين أرسل الله عليهم سيل العرم؛ فانهار السد واجتاح الماء بلادهم واجتث زروعهم وثمارهم وأتلف أموالهم ومحاصيلهم، فذلوا بعد عزة وضعفوا بعد قوة، وتفرقوا بعد اجتماع وإلفة، وخافوا بعد أمن ومنعة (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ:15-17].
وإن ما نشاهده ونسمع عنه من فيضانات تغرق الناس وتشردهم عن قراهم ويصبح الناس في العراء، ويزدادون فقرا إلى فقرهم! في حين تشكو بلاد أخرى جفافا لسنين عدة؛ حتى نفقت بهائمهم وهجروا قراهم طالبين السلامة وقطرة الماء!
إن هذا لدليل واضح على أن الماء مؤتمر بأمر الله -تعالى- يصرفه كيف يشاء، وأن شكر الله -تبارك وتعالى- على نعمة الماء لا يقتصر على الشكر باللسان؛ بل يتعداه إلى الشكر بحسن التصرف فيه وحسن استغلاله، والاقتصاد والترشيد في استعماله؛ فأي إسراف في استعمال الماء هو تصرف سيء وكفر لهذه النعمة، جاء النهي عنه صريحا في القرآن المجيد، يقول الله -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف:31].
وإن الإسراف في الماء كما هو في مباحات الإنسان واستعماله له فهو كذلك في عبادته وما يتأكد فيها استعمال الماء، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا اغتسل اغتسل بالقليل، وإذا توضأ توضأ بالنزر اليسير؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد"، والمد ملئ اليدين المتوسطتين.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن من الإساءة والانحراف هدر الماء عن طريق التبذير والإسراف.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد: فيعاد القول بتأكيد الأمر بالاقتصاد في استعمال الماء، بعدما أغاث الله بلادنا في مطر تلبدت به الأرض، وسكنت به الأجواء، واطمأنت به النفوس، وعلمت أنَّ لنا رباً يبدئ ويعيد! يجيب الدعاء ويؤخذ بالعفو، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ)[فاطر:45]. لاسيما بعدما سمعت هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأنه بأمر الطهارة يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد؛ فمن منا يطبق هذه السنة النبوية أو يقترب منها في هذا الزمان إلا من وفقه الله -عز وجل-؛ فالأنهار الموجودة في دورات المياه يصرفها الإنسان كيف يشاء تكون مدعاة لأحدنا لأن يسرف في الماء فلننتبه لذلك.
ويروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم وهو صحيح بمعناه- أنه رأى أحد الصحابة وهو يتوضأ فقال له: "لا تسرف في الماء"، فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: "نعم وإن كنت على نهر جار". ويروى أيضا أنه قال: "إن للوضوء شيطانا يقال له: الولهان، فاتقوا وسواس الماء".
وعندما يرى المسلم إخوانه المسلمين في أماكن الوضوء في المساجد يشاهد من الأمر عجبا في إهدار الماء، وفتحه من محابسه إلى أعلى الدرجات؛ فنجد الماء مهدرا نافذا إلى مجاري الصرف، وكأنهم لا يعون ولا يعلمون شيئا من سنة رسولهم محمد حيث يتوضأ أحدهم بأكثر من القدر الذي عليه هدي رسول الله بعشرات المرات، وحالهم في الاغتسال أعظم وأكثر.
والواجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه ويتقي ربه، وإذا بدأت المحاسبة تأتي النتائج المثمرة -بإذن الله-، ولا ينتظر الإنسان أن يوضع في الدورات نقاصا في الماء حتى يكون محجورا عليه لإسرافه، والمؤمن يتعبد لله في أمره كله؛ وإن عدم الرقيب البشري عليه.
وتوعية أهل البيت من الصغار والخادمات الذين نشؤوا على عدم معرفة قيمة هذه النعمة؛ فصار الإسراف في الماء طبعا لهم - توعيتهم من آكد الأمور. وكذا العمال ومن يقومون بغسل الأحواش والسيارات خصوصا أيام الغبار؛ فليأخذ على أيديهم، وإن غفل عنهم مراقبة مصلحة المياه. وقل مثل هذا في صرف المياه على أشجار الزينة ونباتاتها والمسطحات الخضراء والأشجار غير المثمرة والتي لا فائدة من وراءها.. (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)[الفرقان:67].
اللهم استعملنا في طاعتك وأعنا على ذكرك...