الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
إِنَّ طُولَ الْعُمْرِ مَعَ حُسْنِ الْعَمَلِ نِعْمَةٌ مِنَ -اللَّهِ تَعَالَى- يَهَبُهَا مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّ الْعُمْرَ الْمَدِيدَ إِذَا صَاحَبَهُ سُوءُ عَمَلٍ كَانَ نِقْمَةً عَلَى صَاحِبِهِ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ"..
الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)[سَبَأٍ: 1]، وَ: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الْمُلْكِ 1-2]، أَحْمَدُ رَبِّي وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِمَا يُرْضِيهِ، فَكَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا، وَجَزَاؤُهُمْ مَوْفُورًا، وَضَلَّ كَثِيرٌ مِنْ خَلْقِهِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَكَانَ سَعْيُهُمْ مَرْدُودًا، وَعَمَلُهُمْ هَبَاءً مَنْثُورًا، (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الْكَهْفِ 103-104].
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ خَيَّرَهُ رَبُّهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا فَاخْتَارَ عَبْدًا نَبِيًّا [1]، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَنَصَبَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّ الْأَيَّامَ تَتَسَارَعُ، وَالْحَوَادِثَ تَتَابَعُ، وَالْفِتَنَ تَتَعَاظَمُ، وَلَا مَنْجَاةَ مِنْ غُلَوَائِهَا وَشَرِّهَا إِلَّا بِتَقْوَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ إِلَى الْمَمَاتِ، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[الْبَقَرَة: 223].
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ تَوْفِيقِ -اللَّهِ تَعَالَى- لِلْعَبْدِ أَنْ يَمْلَأَ قَلْبَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، وَيَهْدِيَهُ لِمَا يُرْضِيهِ، وَيَسْتَعْمِلَهُ فِي طَاعَتِهِ، فَيَقْضِيَ الْعَبْدُ حَيَاتَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَصْرِفَ أَوْقَاتَهُ فِيمَا يُرْضِيهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ طُولَ عُمْرِهِ يَزِيدُ فِي عَمَلِهِ، وَعَمَلَهُ الصَّالِحَ يَزِيدُ فِي حَسَنَاتِهِ، وَيَرْفَعُ دَرَجَاتِهِ، فَهَنِيئًا لِمَنْ عُمِّرَ طَوِيلًا، وَقَضَى حَيَاتَهُ فِي طَاعَةِ -اللَّهِ تَعَالَى-.
وَإِنَّ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْخَسَارَةِ أَنْ يُمَدَّ لِلْعَبْدِ فِي عُمْرِهِ، وَيُرْزَقَ عَافِيَةً فِي جَسَدِهِ، فَتَمْضِي حَيَاتُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْخُسْرَانِ. كَمْ رَأَيْنَا مِنْ عِبَادٍ لِلَّهِ صَالِحِينَ، مِنْ آبَاءٍ وَأُمَّهَاتٍ، وَأَجْدَادٍ وَجَدَّاتٍ، وَجِيرَانٍ وَقَرَابَاتٍ، شَابَتْ رُؤُوسُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَنَصَبَتْ أَرْكَانُهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لَا يُفَارِقُونَ أَمَاكِنَ صَلَوَاتِهِمْ إِلَّا لِحَاجَاتِهِمْ، وَلَا تَفْتُرُ أَلْسِنَتُهُمْ عَنِ الذِّكْرِ إِلَّا إِجَابَةً لِسَائِلٍ، أَوْ لِحَدِيثٍ لَابُدَّ مِنْهُ. يَقُومُونَ اللَّيْلَ، وَيَصُومُونَ النَّفْلَ، وَيُبَكِّرُونَ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَيَلْهَجُونَ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الدُّنْيَا، وَتَرَكُوهَا لِأَهْلِهَا، وَأَوْقَفُوا نُفُوسَهُمْ لِلَّهِ -تَعَالَى-؛ مِنْهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَارَبَ الْمِئَةَ. أَعْمَارٌ مَدِيدَةٌ، وَأَيَّامٌ كَثِيرَةٌ قَضَوْهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَيَا لَلَّهِ مَا أَحْسَنَ سَعْيَهُمْ! وَمَا أَعْظَمَ فَوْزَهُمْ! جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَأَلْحَقَنَا بِهِمْ.
وَكَمْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا عَنْ شِيبٍ وَعَجَائِزَ، شَابَتْ رُؤُوسُهُمْ فِي مَعْصِيَةِ -اللَّهِ تَعَالَى-، وَنَصَبَتْ أَجْسَادُهُمْ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا، قَدْ بَلَغُوا السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ وَالثَّمَانِينَ وَفِيهِمْ صَبْوَةُ الشَّبَابِ وَغَفْلَتُهُمْ!! تَرَى عَجُوزَهُمْ مُتَصَابِيَةً فِي لِبَاسِهَا وَأَصْبَاغِهَا، وَهَيْئَتِهَا وَأَفْعَالِهَا، تُضَيِّعُ مَشِيبَهَا وَقَدْ أَضَاعَتْ بِالْأَمْسِ شَبَابَهَا، أَفْسَدَتْهَا الْجِدَةُ، وَأَبْطَرَتْهَا النِّعْمَةُ، فَكَأَنَّمَا خُلِقَتْ لِلدُّنْيَا وَفِيهَا تُعَمِّرُ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الشِّيبِ وَالْعَجَائِزِ إِذَا دَهَمَهُمُ الْمَوْتُ، أَوْ طَرَحَهُمُ الْمَرَضُ، أَوْ أَثْقَلَهُمُ الْكِبَرُ؛ عَرَفُوا أَنَّ أَعْمَارَهُمْ ضَاعَتْ سُدًى، وَأَنَّ أَوْقَاتَهُمْ صُرِفَتْ لِلدُّنْيَا، وَهَا هُمْ عَنِ الدُّنْيَا الَّتِي عَمَّرُوهَا يَرْحَلُونَ، وَإِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي أَهْمَلُوهَا يَفِدُونَ، فَمَا أَشَدَّ نَدَمَهُمْ، وَمَا أَفْدَحَ خَسَارَتَهُمْ!!
إِنَّ طُولَ الْعُمْرِ مَعَ حُسْنِ الْعَمَلِ نِعْمَةٌ مِنَ -اللَّهِ تَعَالَى- يَهَبُهَا مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّ الْعُمْرَ الْمَدِيدَ إِذَا صَاحَبَهُ سُوءُ عَمَلٍ كَانَ نِقْمَةً عَلَى صَاحِبِهِ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ" قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ)[2].
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" وَفِي رِوَايَةٍ: "قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَيَكْفِينِي ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَعَمْ وَيَفْضُلُ عَنْكَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ)[3].
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالًا"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)[4].
إِنَّ طُولَ الْعُمْرِ مَعَ حُسْنِ الْعَمَلِ قَدْ يُدْرِكُ الْعَبْدُ بِهِ دَرَجَةَ الْمُجَاهِدِ الَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ -اللَّهِ تَعَالَى-؛ بَلْ قَدْ يَتَجَاوَزُهُ، فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِلشَّهِيدِ الَّذِي قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَهُ الصَّالِحَ الْمُتَتَابِعَ فِي عُمْرِهِ الْمَدِيدِ الطَّوِيلِ فَاقَ أَجْرَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ -اللَّهِ تَعَالَى-. وَقَدْ جَاءَ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ مُرْسَلًا: "أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ ثَلَاثَةً أَتَوُا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْلَمُوا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ يَكْفِنِيهِمْ؟ قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، قَالَ: فَكَانُوا عِنْدَ طَلْحَةَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْثًا فَخَرَجَ أَحَدُهُمْ فَاسْتُشْهِدَ، قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا فَخَرَجَ فِيهِ آخَرُ فَاسْتُشْهِدَ، قَالَ: ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدِي فِي الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَخِيرًا يَلِيهِ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَوَّلَهُمْ آخِرَهُمْ، قَالَ: فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ؟ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلَامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ)[5].
وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعًا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْ صَاحِبِهِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِهِمَا وَقَدْ خَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، فَرَجَعَا إِلَيَّ فَقَالَا لِي: ارْجِعْ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا كَانَ أَشَدَّ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدَخَلَ هَذَا الْجَنَّةَ قَبْلَهُ!! فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟ قَالُوا: بَلَى. وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَهُ؟ قَالُوا: بَلَى. وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا سَجْدَةً فِي السَّنَةِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَلَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَوْلَمَ يَكُنْ يُصَلِّي؟ فَقَالُوا: بَلَى، وَكَانَ لَا بَأْسَ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صِلَاتُهُ"[6].
أَسْأَلُ اللَّهَ –تَعَالَى- أَنْ يَسْتَعْمِلَنَا فِي طَاعَتِهِ، وَأَنْ يُبَلِّغَنَا رَمَضَانَ، وَأَنْ يُعِينَنَا عَلَى أَدَاءِ حَقِّهِ فِيهِ، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا صَالِحَ الْأَعْمَالِ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ…
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَتَزَوَّدُوا مِنْ دُنْيَاكُمْ لِأُخْرَاكُمْ، وَمِنْ صِحَّتِكُمْ لِمَرَضِكُمْ، وَمِنْ حَيَاتِكُمْ لِمَوْتِكُمْ؛ فَإِنَّ السَّعِيدَ مَنْ عَمَّرَ وَقْتَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ ضَاعَ عُمُرُهُ فِي اللَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي هِيَ مُسْتَوْدَعُ الْأَعْمَالِ، فَمَنْ كَانَ يَعْمَلُ صَالِحًا فَإِنَّ طُولَ عُمْرِهِ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَ الطِّيبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "إِنَّ الْأَوْقَاتَ وَالسَّاعَاتِ كَرَأْسِ الْمَالِ لِلتَّاجِرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّجِرَ فِيمَا يَرْبَحُ فِيهِ، وَكُلَّمَا كَانَ رَأْسُ مَالِهِ كَثِيرًا كَانَ الرِّبْحُ أَكْثَرَ، فَمَنِ انْتَفَعَ مِنْ عُمْرِهِ بِأَنْ حَسُنَ عَمَلُهُ فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ، وَمَنْ أَضَاعَ رَأْسَ مَالِهِ لَمْ يَرْبَحْ وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا" اهـ [7].
وَلِأَهَمِّيَّةِ الْعُمْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ، وَانْتِفَاعِهِ بِطُولِهِ؛ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ وَقْتَ الْعَمَلِ، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا"(رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)[8].
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ"[9]، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، وَالدُّعَاءِ بِهِ هُوَ انْقِطَاعُ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ؛ فَإِنَّ الْحَيَاةَ يَتَسَبَّبُ مِنْهَا الْعَمَلُ، وَالْعَمَلُ يُحَصِّلُ زِيَادَةَ الثَّوَابِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا اسْتِمْرَارُ التَّوْحِيدِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ…"[10] اهـ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ، وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ"[11].
قَالَ السَّاعَاتِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "الْمَطْلَعُ: مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَرْزَخِ، ثُمَّ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَيْسَ فِي تَمَنِّي الْمَوْتِ إِلَّا تَمَنِّي الشَّدَائِدِ، فَالْخَيْرُ فِي طُولِ الْعُمْرِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى طَاعَةِ -اللَّهِ تَعَالَى-، لَا فِي تَمَنِّي الْمَوْتِ الَّذِي يُضَيِّعُ هَذَا الْخَيْرَ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِرَفْعِ الشَّدَائِدِ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ"[12].
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: وَهَا هُوَ ذَا رَمَضَانُ قَدْ أَقْبَلَ، وَكَمْ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ عَظِيمٍ، وَأَجْرٍ كَثِيرٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ –تَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ، وَلْيُعَمِّرْ وَقْتَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَكَمْ فِي الْقُبُورِ مِنْ أُنَاسٍ ضَيَّعُوا رَمَضَانَاتٍ كَثِيرَةً، وَقَضَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي الْمَعَاصِي، قَدْ نَدِمُوا أَشَدَّ النَّدَمِ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِلتَّزَوُّدِ مِنَ الْخَيْرِ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَعُودُوا.
إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدِ اعْتَادُوا فِي رَمَضَانَ عَلَى اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ وَأَعْوَانِهِ وَجُنْدِهِ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَاسِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْمُلْهِيَاتُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ، وَوَصَلَ إِلْهَاءُ النَّاسِ فِي رَمَضَانَ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَإِفْسَادِ قُلُوبِهِمْ بِالْمُنْكَرَاتِ حَدًّا عَجِيبًا، تَتَنَافَسُ الْفَضَائِيَّاتُ وَغَيْرُهَا فِي ذَلِكَ أَشَدَّ التَّنَافُسِ، وَالْمُشَاهِدُ الْمُسْلِمُ الْمِسْكِينُ يَصُومُ نَهَارَهُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ، وَيَقْضِي لَيْلَهُ عَلَى مُشَاهَدَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَهَذَا وَاللَّهِ مِنْ قَضَاءِ الْعُمْرِ فِي سُوءِ الْعَمَلِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَالْهِدَايَةِ.
أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَاعْمُرُوا أَوْقَاتَكُمْ بِذِكْرِ -اللَّهِ تَعَالَى-، وَاقْضُوا أَعْمَارَكُمْ فِي التَّزَوُّدِ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ؛ فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ مَنْ طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَإِنَّ شِرَارَ النَّاسِ مَنْ طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ وَسَاءَتْ أَعْمَالُهُمْ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ...
-----