المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | خالد بن سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام - |
هو شهر المحراب، وشهر الحراب، شهر الدموع، وشهر الدماء، فقد كان السلف يعمرونه بالطاعة في المساجد والحرمين الشريفين، وعلى الثغور جهادًا في سبيل إعلاء كلمة الله -تعالى-، وكم نصر الله المسلمين فيه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي شرف شهر رمضان على سائر شهور العام، وأجزل فيه الإنعام، وخصه على سائر الشهور بمزيد الفضل والإكرام، فخص نهاره بالصوم، وليله بالقيام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرد بالكمال والتمام، وتقدس عن مشابهة الأنام، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، المبعوث إلى الثقلين مبشرا ونذيرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الكرام.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا بأن التقوى لباس الخير، وطريق الفوز في العاجلة والآجلة، يقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96]، ويقول تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة: 27]، وإن من تمام التقوى: أن يدع الإنسان بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام، فالمؤمن التقي ورع لا يحوم حول الحمى، ولا يدنو من الشبهات، ويترك ما يريبه، ومن ثم يحيا مخبتًا لربه، يخشاه في السر والعلن، يرجو رحمته ويشفق من حسابه وعذابه.
والصيام وهذا شهره قد أظلنا، وهذه أنواره تتسابق نحونا، وهذه خيراته تتدفق بين أيدينا.
الصيام -أيها الإخوة- عبادة كتبت علينا لغاية عليا، هي تربية التقوى في نفس المؤمن، وبعث الشكر لربه -تعالى- الذي أنعم عليه بكل شيء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].
وإلى جانب هذه الثمرة الجليلة للصيام، فإن هناك ثمارًا أخرى كثيرة جدًّا، فبه ينطلق الإنسان من سلطان غرائزه، ويتغلب على نزعات شهواته، فترتقي روحه، وتقترب من الملأ الأعلى، فإذا دعا ربه استجاب له، ويجد لذة في العبادة لم يكن يجدها من قبل، ويجد نفسه مقبلة على عمل الخير، وما كانت من قبل تنشط له.
وللصيام أثره في صحة البدن، فهو يقيه من كثير من الأمراض، ويعالج فيه كثيرًا من العلل، ويقوّي إرادته، فالصائم يحتمل الجوع والعطش في تناول الطعام والشراب، ولا سلطان عليه في ذلك، كله سواء، سلطان المراقبة الحقة لله -عز وجل-، وبذلك تتربى في النفس مرتبة الإحسان، وهي أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
والصيام -يا إخوتي المؤمنين- يبصرنا بقيمة النعم التي بين أيدينا، وكيف يعاني غيرنا من فقدها، فالمعدة حين تفرغ من الطعام تذكرنا بجوع الجائعين، وبؤس البائسين، وقد ذُكر أن يوسف -عليه السلام- كان يكثر من الصيام وهو على خزائن الأرض، فسُئل في ذلك فقال: "أخاف إذا شبعت أن أنسى جوع الفقير".
ويكفي أنه شهر المغفرة، وما أحوجنا إلى المغفرة! وقد غرقنا في معاصينا، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله -عز وجل- عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" (رواه النسائي وصححه الألباني).
وما أجمل أن ينتصر الإنسان على نفسه في رمضان، فلا يصخب، ولا يضيق بالناس ولا بالعمل، فالصوم يربّي ضمائر الأفراد والجماعات، ويطهر القلوب مما يلم بها من الرجس طيلة أيام السنة، وإذا زكيت النفوس فإن هذه الزكاة تكون في الفرد سلوكًا وعبادة وبذلاً، وفي الأسرة والجيرة وذوي الأرحام برًّا وتعاطفًا، وفي المجتمع تماسكًا وتكافلاً.
وهو شهر المحراب، وشهر الحراب، شهر الدموع وشهر الدماء، فقد كان السلف يعمرونه بالطاعة في المساجد والحرمين الشريفين، وعلى الثغور جهادًا في سبيل إعلاء كلمة الله -تعالى-، وكم نصر الله المسلمين فيه على أشد أعدائهم، كبدر وفتح مكة، وعين جالوت وشقحب، وغيرها.
فنسأل الله -تعالى- أن يجعل شهرنا هذا شهر انتصار للمسلمين في أنحاء الأرض، إنه سميع مجيب.
ومما يجدر بالمسلم تجاه هذا الشهر: أن يحب لقاءه، ويستعد له بالتوبة، ويهيئ النفس للإكثار من العبادة فيه، وأن يحرص على سؤال أهل الذكر عن كل ما يطرأ عليه من أسئلة، حتى يتم له الأجر والثواب، ولا يمنعه من العلم حياء ولا كبر، وإلا فستفسد عبادته، فإن قبول الأعمال مرهون بأمرين: الإخلاص وصحة الاتباع للشرع.
كما ينبغي لنا أن نكثر من الصدقات فيه، وعمل البر، وتفطير الصائمين، والتوسعة على العيال، وإدخال السرور عليهم.
وإذا استطاع أحدنا فليجعل له فيه عمرة، فإن "عمرة في رمضان تعدل حجة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-" (رواه مسلم).
اللهم بلغنا رمضان، وبلغنا في رمضان الصيام والقيام، وتقبله منا يا كريم.
ربنا اغفر لنا وارحمنا إنك أنت الرحمن الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي تفرد بالجلال، والعظمة العزة والكبرياء والجمال، وأشكره -تعالى- شكر عبد معترف بالتقصير عن شكر بعض ما أولاه من النعم والأفضال، وأشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: اتقوا الله، وأطيعوه.
يدور الفلك دورته، ويتم البدر رحلته، ثم تنتقص منه الليالي والأيام، فيهل علينا شهر رمضان المبارك الذي أنزل القرآن؛ هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فتنشرح فيه النفوس للطاعة، وتهفو القلوب إلى التوبة.
إنه ضيف كريم يأتينا كل عام، مجللاً بالبركات، ممتلئًا بالخيرات، تنزل فيه ملائكة الرحمة، وتصد فيه الشياطين، وتتلألئ فيه الأنوار، وتنكشف للقلوب المؤمنة الأستار:
ترى زمر الأحباب في ظل ليله | وقوفًا على الأقدام ذلاً به تاهوا |
فما كان أحلاهم إذا ما تمثلوا | وليس يلوذ العبد إلا بمولاه |
وما كان أحراهم بنيل مناهم | فقد أدلجوا عاص منيب وأواه |
فمرحبًا بك يا رمضان، يا من اختص الله بك أمة الإسلام، فأنت حين تقبل يقبل معك الخير والبركة، والرضا واليقين، أملنا في الله أن يمنحنا من فضلك، وأن يجعلنا فيك من الخاشعين المنيبين، وسلام الله عليك ما أقمت بيننا، وحين ترحل عنا، يا أمل العابدين.
عباد الله: ولرمضان سؤال ملح يقول: من سينال ثمرات الصيام؟
هل هو من صام الشهر لأن الناس صاموه، يفوّت الفرائض، ويسهر على برامج الفساد وكشف العورات والاختلاط المحرم والموسيقى والغناء الفاحش؟!
نعم لقد أعد أنصار الشيطان مسلسلاتهم ومسابقاتهم مشحونة بما يغضب الرب -جل وعلا- من عري وانحراف، فهل ستستجيب الأفئدة المنيبة، والقلوب الخاشعة، والجباه الراكعة الساجدة، والعيون الدامعة؟! هل سينال ثمار الصوم من يصوم عن الحلال ويفطر على الحرام؟ يصوم عن الأكل والشرب، ويكذب ويغتاب، ويسب ويفجر!
إن الذي صام وقام محتسبًا بذلك وجه الله الكريم، لا رياء ولا سمعة، هو الذي يعمر نهاره بالذكر والصيام، وليله بالتهجد والقيام، هو الذي جفَّ ريقه من كثرة تلاوة القرآن، وتفطرت أقدامه من طول المناجاة بين يدي علام الغيوب، هو الذي خلع نفسه من زخارف الدنيا منصرفًا إلى محرابه، يذرف العبرات، ويغسل الخطايا، يحث الناس على الطاعات، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويرجو رحمة ربه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[المؤمنون: 60].
اللهم نسألك أن ترفع درجاتنا عندك، وأن تحببنا فيما يرضيك عنا، وأن لا تصرف عنا فضلك، يا سميع الدعاء.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.