البحث

عبارات مقترحة:

الجبار

الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...

الوتر

كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

التلذذ بالطاعات والحفاظ عليها

العربية

المؤلف خالد بن عبدالرحمن الشايع
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. كمال الدين وتمامه .
  2. بعض آثار العبادات على أصحابها .
  3. أحوال الناس من حيث التأثر بالعبادات .
  4. بعض صفات المؤمنين المسارعين بالخيرات .
  5. ثواب المسارعين بالخيرات والمسابقين إليها .

اقتباس

الإيمان له حلاوة طعم يذاق بالقلوب، كما تذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم واللسان، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقُوتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقُوتها، وكما أنَّ الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته، فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك، بل...

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب السموات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:

فيا أيها الإخوة المؤمنون: كبِّروا الله -جل وعلا- وعظِّموه، واشكروه على ما ترادفت به نِعمه، وما توالت به آلاؤه، فإنَّ أهل الإسلام لا يزالون يتقلَّبون في أنْعُمِ الله -جل وعلا- فوق ما لغيرهم من النعم، ونعم الله -جل وعلا- شاملةٌ للعالمين، ولأهل الإسلام بما جعل الله -جل وعلا- لهم من هذه الشرعة العظمى مزيد إنعام.

ولا يزال المسلمون يتقلبون بين أنواع النعم الدينية على وجه الخصوص التي جاءت من خلال هذه الشرعة العظيمة التي كمَّلها ربُّ العزة ورضِيها لنا دينًا؛ كما قال عز من قائل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3].

فما أكمله من دين! وما أجملها من شرعة! وما أهنأها من عبادة! تتوالى في كل لحظة تمر بالمؤمن، صلاة تلو صلاة، ورمضان بعد رمضان، وحج وعمرة وزيارة، وذكر وتلاوة للقرآن، وبر للوالدين وصلة للأرحام، وغير ذلك من أنواع التعبد لله -جل وعلا-.

هذه العبادات التي يجد آثارها المسلمون كلما قربوا منها، وكلما عُنُوا بها، وكلما كانوا أشدَّ صلة بها، وهذا أمر مشاهد يجده المسلم حينما ينصرف من صلاته، فيجد تلك الراحة والطمأنينة التي تغشى قلبه، وتختلط بروحه، ولا يمكن أن تُفسَّر بشيء من أمور الدنيا إلا بما جعله الله -تعالى- من خصائص هذه العبادات، وهي أنها تُورث لذةً وراحةً وطمأنينة في قلب مَن باشرها، وهكذا العبادات الأخرى، فحينما يباشر المسلم الصيامَ يجد له تلك الراحة والطمأنينة، رغم الجوع والعطش الذي ربما أصابه لدى صيامه، ولكنه يجد في نهاية يومه وفي تمام شهره، وعند لقاء ربه -بإذن الله- الفرحَ واللذة: "للصائم فرحتان يفرحهما: يفرح عند فطره، ويفرح عند لقاء ربه".

وهكذا العبادات الأخرى فحينما يشرف المؤمن بتلاوة كلام ربه يجد من الراحة والطمأنينة ما لا يمكن وصفه، وحينما يلهج لسانه بذكر الله -تعالى- يجد هذه الطمأنينة التي لا يمكن أن تحصل من سبيل آخر: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28]، ولذا لن تُحصَّل -أيها الإخوة المؤمنون- لذةً في هذه الحياة كما تحصَّل من خلال طاعة الرحمن -جل وعلا-، ويدل على هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قلابة -رحمه الله- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجَد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُقذف في النار".

وهذه الحلاوة التي يجدها المؤمن حلاوة حقيقية هي طعم الإيمان، ذلك أن الإيمان له حلاوة طعم يذاق بالقلوب، كما تذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم واللسان، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقُوتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقُوتها، وكما أنَّ الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته، فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك، بل ربما استحلى ما يضره وما ليس فيه حلاوة، وذلك لغلبة السقم عليه، ولوجود المرض في بدنه، فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان إذا سلم من الأسقام والآفات، فإذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة، وجد حلاوة الإيمان حينئذ، ومتى مرض وسقم، فإنه لن يجد حلاوةً للإيمان، بل إنه ربما استحلى مع وجود هذا المرض في قلبه والشبهات التي تعلق به، والشهوات المحرمة التي صرفته عن طاعة الله، ربما صارت هي هجيراه، وهي مطلبه الذي يتوجه إليه، وهذا يكون به هلاكه -عياذًا بالله من كل ذلك-؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"؛ ذلك أنه إذا ضعف إيمانه، ولم يتلذذ بالطاعات، واستحلى المحرمات صار متوجهًا لها.

وبذلك يعلم -أيها الإخوة المؤمنون- أن الإنسان لو أنه كَمُل في إيمانه وطاعته لربه أو قارب ذلك فإنه سيستغني عن استحلاء المعاصي، وهذا ما يفسر قول بعض السلف: "إن أهل الليل في ليلهم أعظم لذة من أهل المعاصي في عصيانهم، وأهل الأهواء والشهوات في شهواتهم"، ويعني بذلك أن أهل الليل حينما يتهجدون تقرُّبًا لمولاهم -جل وعلا- يجدون لذةً وراحةً وطمأنينة أعظم من لذة أصحاب الشهوات التي يجدونها بطبعهم الإنساني، ولكن اللذة بالقرب من الرحمن لا يمكن مقارنتها ولا مشابهتها بأي لذة من لذائذ هذه الحياة الدنيا.

سُئِل وهيب بن الوردي -رحمه الله-: "هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله؟ قال: لا ولا مَن هَمَّ بالمعصية"، ويعني بذلك -رحمه الله- أن هذا القلب له حساسية مفرطة، فكلما زُوحِم بالسيئات والمعاصي، لم يجد لذةً للطاعات، وصار متباعدًا عن قرب رب البريَّات -جل وعلا-، وهذا ما يفسر قول نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- لبلال –رضي الله عنه- في شأن الصلاة: "أرِحْنا بها يا بلال" أرحنا بها؛ لأن هذه الحياة الدنيا ومعالجة أمورها ومخالطة شؤونها، ربما أوجدت على القلب نوعًا من الانصراف ونوعًا من الغفلة، وهذه لها أثرها في أن يجد القلب السعادة والطمأنينة، ولا يرد له ذلك إلا بإعادة الصلة بالله -جل وعلا-؛ قال ذو النون -رحمه الله- فيما رُوِي عنه: "كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادات مع الذنوب".

ولذا كانت هذه الخصال الثلاث التي ذكرت في هذا الحديث مؤشرًا على الطمأنينة واللذة التي يجدها المؤمن في قلبه: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُقذف في النار".

وجملة القول: أن العبادات لها أثرٌ عظيم في وجود هذه الطمأنينة التي لا يمكن وصفها، ولا يمكن إدراك خطرها، وذلك يتفاوت فيه الناس كما يتفاوتون بين السماء والأرض، ولذا كان سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- هو أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم عيشًا؛ لأنه أعظم الناس إيمانًا وأشدهم قربًا لربه، وأشدهم تعبدًا له -سبحانه-، فأورثه ذلك من حب الله له، وما أودعه الله في قلبه الشريف من الراحة والطمأنينة التي إنما يكون تعلُّقها بطاعة الرب -جل وعلا-.

ولذا كان من آثار ما جعل الله له عليه الصلاة والسلام من تطهير قلبه الشريف منذ بدء حياته الشريفة، حينما جاءه الملك وهو في صغره في بادية بني سعد، وشق عن قلبه، واستخرجه وغسله في طَسْتٍ من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه، كان سر هذا أن أخرج الله من قلبه حظ الشيطان، فلا تعلُّق له عليه الصلاة والسلام إلا بطاعة الرحمن، ولا التفات له في شيء مما يكون ميل بني الإنسان إليه، وتكرر هذا التطهير لقلبه الشريف عند تهيؤه للصعود في الملكوت الأعلى في رحلة المعراج، فإنه تكرر غسل قلبه الشريف مرة أخرى، وطُهِّر لهذه الرحلة الشريفة العظمى، يقول أنس -رضي الله عنه-: "فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وما شق قلبه عنه".

والمقصود أن القلوب إذا تطهرت بالطاعات، وألِفت عبادة الله -سبحانه- وجدت من الراحة والطمأنينة ما لا يمكن وصفه، وهذا ما يُفسر به ما يكون من إقبال الناس في مواسم الطاعات على ربهم -جل وعلا-، فإنهم يتلذذون بهذه الطاعات، فالصيام غير شاق عليهم، والقيام محبوب عندهم، ويلزمون المساجد، ويكثرون تلاوة القرآن، ذلك أنهم وجدوا لذةً وراحةً وطمأنينة أغرتهم وشجعتهم على أن يستمروا في هذا الطريق، وهذا الذي يتعين على المؤمن أن يحافظ على هذه النعمة، وهذا الكنز الكبير، وأن يحذر من أن ينكص على عقبيه بعد أن عرف الإسلام وراحته، وعرف الصلاة وطمأنينتها والصيام وشرفه، وتلاوة القرآن وعظمته، وغير ذلك من العبادات، كيف ينكص عنها ويتولى وقد عرف الخير العظيم فيها؟ ولذا عاب الله -جل وعلا- من كان هذا شأنه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)[الأعراف: 175 - 176].

وعاب الله -جل وعلا- مَن نقَض هذا الإيمان وتولَّى عن طاعة الرحمن، فقال عز من قائل: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)[النحل: 92]، والله -سبحانه- يثني على عباده المؤمنين الذين حصلوا هذه الطاعات بأنهم يحافظون عليها، ولا يزالون مزدادين في الخيرات والقرب من طاعته سبحانه، يثني عليهم بذلك أن الخير وحب الطاعة صار ديدنهم، وصار هو المطلب الأول عندهم؛ قال الله -عز من قائل- في كتابه الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 57 - 61].

هذه صفات من يسارع إلى الخيرات، فإنهم كما قال الله -جل وعلا-: (مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)، والمعنى أن في قلبهم خوفًا من الله -جل وعلا-، وتعظيمًا ليوم المرجع إليه، مع رقة تحصل كلما تذكروا الرجوع إليه -جل وعلا-، فهم معظِّمون لهذا اليوم، يخشون فيه الخزي بعذاب الله وسخطه، والمعنى أنهم دائمون في طاعة الله -جل وعلا-، جادون في مرضاته، ولذلك لا يزالون يوالون الحسنات والطاعات، وكلما زلَّت بهم القدم في شيء من السيئات، بادروا إلى التوبة إلى ربهم -جل وعلا-.

هكذا هو حال المؤمن لا يزال خائفًا مهما أكثر من الطاعات، فهو لا يتكل على عمله، بل يرجو رحمة ربه، وهذا بخلاف المنافق، وبخلاف من يُدلي ويمنُّ على ربه بالعمل، فإنه ربما عمل شيئًا من الصالحات، فلا يزال مدليًا بها على ربه، مانًّا بها، وهذا من علامات النفاق -عياذًا بالله-: (قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ)[الحجرات: 17]، ولذا قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن المؤمن جمع إحسانًا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءةً وأمنًا، المؤمن لا يزال محسنًا"، ومع ذلك مشفق من الرجعى إلى ربه -جل وعلا-، أما المنافق فإنه مسيء في سيئاته، مستغرق فيما يُغضب الله -جل وعلا-، ومع ذلك عنده الأمن ولا يخاف من الرجعى إلى ربه -نعوذ بالله من مثل هذه الحال-.

ووصف الله عباده الأخيار بالصفة الثانية، قال: (وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ)، فعندهم الإيمان الراسخ بجميع آيات الله -جل وعلا-، الدالة على وحدانيته وقدرته؛ سواء كانت آياتٍ منزلة في القرآن، أم الآيات الكونية، فالآيات هنا تعم القرآن، وتعم العبر والمصنوعات، إلى غير ذلك مما يكون فيه النظر والاعتبار بخلق الله -جل وعلا-، وإبداعه في هذا الكون.

والصفة الثالثة قال: (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) فإنهم متخلصون من الشرك بالله، جعلوا العبادة له سبحانه، فلا يقربون شيئًا مما ينقض إيمانهم أو يُضعفه، فهم متخلصون من الشرك والكفر، وهم أيضًا بعيدون عن أن يجعلوا أعمالهم للرياء والمباهاة أمام الخلق، ذلك أنهم إنما يريدون الثواب من ربهم -جل وعلا-.

ثم الصفة الرابعة قال: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، والمعنى أنهم يعطون ما أعطوا، ويقدمون ما قدموا.

وهذا يشمل كل ما يجب إيتاؤه من حق الله -جل وعلا- أو حق عباده، فهم قائمون بالصلاة والزكاة والحج، وغير ذلك، وقائمون بالزكاة وبحقوق الخلق، ومع ذلك فإنهم مع ما يقدِّمونه ويعملونه، فإن قلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، والمعنى في ذلك أنهم مع ما قدموا من هذه الأعمال، فإنهم لا يزالون خائفين من الرجعى إلى ربهم.

وفي هذا كما يقول العلماء تنبيه على الخاتمة؛ قال الحسن البصري -رحمه الله-: "معناه أنهم الذين يفعلون ما يفعلون من البر، ويخافون ألا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم، وذلك بما قد يكون قد دخل هذه الأعمال من رياء أو غيرها مما يفسده، فهم لا يتكلون على أعمالهم، ولا يزكون أنفسهم بها، ولكنهم يعوِّلون على رحمة أرحم الراحمين؛ لأن العمل بذاته لن يكون منجيًا للإنسان ولا مخلِّصًا له، ولن يكون مقابلًا لأنعم الله -جل وعلا-، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "لن ينجي أحدًا منكم عملُه" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته".

ولكنَّ هذا العمل الصالح هو مقدمة وموطئ لرضا الرب -جل وعلا-، فالمؤمن لا يزال منيبًا إلى ربه مُقبلًا عليه بالطاعات، حتى يدخل جنته ويشمله ربه برضاه، ولكنه مع ذلك لا يكون مدليًا على ربه ولا مانًّا، ولا مزكيًا لنفسه بين يدي ربه بشيء من هذا العمل، بل لا يزال مزريًا على نفسه أنه مقصرٌ، وأنه إنما يرجو رحمة أرحم الراحمين.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "المعنى أنهم يعطون العطاء وهم خائفون ألا يتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصَّروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط، جاء عن بعض السلف -رحمهم الله- قولهم: "لقد أدركنا أقوامًا كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشد إشفاقًا منكم على سيئاتكم أن تُعذبوا بها".

وبعد -أيها الإخوة المؤمنون- فإن المؤمن ينبغي أن يكون مزدادًا من الحسنات، مبادرًا إلى كل طاعة لاحت له، فهذه آثارها في الدنيا، وتِلكُم بركاتها في الآخرة.

ثبَّتنا الله جميعًا على الإيمان، وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو ثناء ربنا -جل وعلا- على عباده المؤمنين لِما لهم من هذه الصفات العظيمة والخِلال الكريمة بالإقبال على طاعته، والانكفاف عن معصيته، ولذا قال الله -تعالى- مثنيًا عليهم: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)، فلا يزالون في هذه الحياة حريصين على الطاعات مبادرين إليها، حتى يختم لهم بها، والأعمال بالخواتيم؛ كما صح عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "إنه قد عُلِم من سُنة الله ألا يَعلم مِن عبدٍ مِن عباده خيرًا، إلا دلَّه عليه وثبَّته عليه، وختَمَ له به".

إنَّ الله -جل وعلا- لا يعلم من عبد من عباده حبًّا للخير، وحرصًا عليه إلا دلَّه على هذا الخير وثبَّته عليه؛ لأن من الناس من يُدلَّ على الخير، ولكنه لا يهتدي، أو ربما لم يثبت عليه، ومن الناس من يعرف الخير، ويسلك طريقه حينًا من الدهر، لكنه لا يختم له به، فكانت هذه الثلاث عنوانًا على رحمة الله بعبده وحبه له أن يدله على الخير بعد أن ضل أكثر العالمين، وأن يثبته عليه بعد أن زاغت قلوب وأبصار كثير من الناس، وأن يختم له به بعد أن خُتم لغيره بغير ذلك من الخير، فكان ذلك عنوانًا على حب الله لعبده أن يجعله على هذه الاستقامة: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)، وفي هذا المقام استفتت الصديقة بنت الصديق عائشة -رضي الله عنها- نبينا محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- عن دلالة هذه الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) تقول رضي الله عنها: "قلت يا رسول الله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله -جل وعلا-؟ فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا يا ابنة الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله -تعالى-".

فتأملوا -رحمكم الله- ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من الإشفاق من القبول؛ فإن القبول نعمة عظمى من الله -جل وعلا-، كم من إنسان يسعى ويبذل، لكن القبول في الغيب عند الله -جل وعلا-، وكثير من الناس رُدَّت عليهم أعمالهم؛ إما لخلوِّها من الإخلاص، أو ما خالطها من الرياء، أو لغير ذلك من الصوارف، ولذا قال بعض السلف: "لأن أعلم أن الله قبل مني عملًا واحدًا، فإني أحب الموت من بعده؛ ذلك أن الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة: 27].

فحري بنا -أيها الإخوة المؤمنون- وقد لاحت لنا آثار هذا الخير في عبادة الرب -سبحانه- بما شرع من هذه الطاعات التي ألِفها المسلمون في هذا الشهر الكريم، وكثُرت أعدادهم في القرب من هذه الطاعات: أن نحافظ على هذا الكنز العظيم، وألا نخلَّ به؛ ذلك أن الإخلال به نوعٌ من النكث والنقض الذي عاب الله به أهله (أهل هذا النقض والنكث) حيث قال سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ)[النحل: 92]، ولذا قال بعض السلف كما رُوِي عن مطرف بن عبد الله -رحمه الله- قال: "كاد خوف النار يحول بيني وبين أن أسأل الله الجنة"، وقال بكر المزني لما نظر إلى أهل عرفات: "ظننتُ أنه قد غُفِر لهم لولا أني كنت معهم".

وهذا الحامل عليه إزراء الإنسان على نفسه واتهامها، حتى يبلغ طاعة الله -جل وعلا-، فهذه صفة الخائفين أنهم لا يزالون مزرين على أنفسهم، يرون فيها التقصير، حتى إذا وافوا آجالهم، إذا بهم يقدمون على رب كريم رحيم، عظَّم منهم هذا الإشفاق والخوف، وقَبِلَ منهم طاعاتهم.

فنسأل الله -جل وعلا- أن يُثبتنا جميعًا على الإيمان، وأن يَزيدنا قربًا منه سبحانه، وأن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا، محمد فقد أمرنا الله بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين وأحْسِن عاقبتهم في الأمور كلها، اللهم فرِّج همومهم، ونفِّس كروبهم، ويسِّر لهم أمورهم يا رب العالمين.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء والأموات، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.

اللهم اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم أَعِذْنا جميعًا من الفتن ما ظهر منها وما بطَن.

اللهم أصلح أئمتنا ووفِّقهم إلى الخيرات، اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم اجعله رحمة على رعيته، اللهم دُلَّه على الخيرات، وانصُر به دينك يا رب العالمين.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.

اللهم ثبِّت أقدام إخواننا المرابطين على الحدود والثغور.

اللهم احفظهم بحفظك، وسدِّد آراءهم ورمْيهم يا رب العالمين.

اللهم مَن أراد ببلادنا شرًّا وسوءًا فاجعل تدبيره تدميرًا عليه يا قوي يا عزيز.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180 - 182].