الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | عبدالمحسن بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
فثمرة الحج إصلاح النفس وتزكيتها، والظفر برضا الله -تعالى- والفوز بجنات النعيم، ويتحقق ذلك للحاج إن أدَّى حجَّه بِنِيَّة صالحة خالصة، وعلى علم وبصيرة، ومن نفقة طيبة، وملأ قلبَه ولسانَه بذِكْر الله، ولازَمَ في حجه الإحسانَ إلى الخَلْق ونفعهم، مع حُسْن الخُلُق معهم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وراقِبوه في السِّرِّ والنجوى.
أيها المسلمون: مواسم الخيرات تتجدد على العباد فضلا من الله وكرما، فما إن تنقضي شعيرة إلا وتليها عبادة أخرى، وها هي طلائع الحجاج قد أمَّت بيتَ الله العتيق، مُلَبِّينَ دعوة إبراهيم الخليل -عليه السلام- بأمر الله له: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الْحَجِّ: 27]، قصدُ البيتِ فرضُ وقُرْبَةٌ، قال عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" (رواه مسلم).
الحج عبادة في الإسلام عظيمة؛ فهو أحد أركان الإسلام ومن أَجَلِّ الطاعاتِ وأحبها إلى الله، سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي الأعمال أفضل، قال: إيمان بالله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور" (متفق عليه).
به مَحْوُ أدران الذنوب والخطايا، قال عليه الصلاة والسلام: "الحجُّ يهدِم ما كان قبله" (رواه مسلم).
وهو طُهْرَة لأهله ونقاء، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجَع كيوم ولدته أمه" (متفق عليه).
بالحجاجِ يُباهي اللهُ ملائكتَه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يوم أكثر من أن يُعتق اللهُ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه لَيدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟" (رواه مسلم).
وليس للمخلِص في حجه جزاء إلا الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: "العمرة إلى العمرة كفَّارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (متفق عليه).
الحجُّ مَجْمَعُ الإسلامِ الأعظمُ، يربط حاضر المسلمين بماضيهم ليعيش العباد أمة واحدة مستمسكين بدينهم، ولا طريق لذلك إلا بالاعتصام بالكتاب والسُّنَّة والسَّيْر على منهج سلف الأمة.
في الحج تتلاشى فواصل الأجناس واللغات والألوان، ويبقى ميزان التفاضل هو التقوى، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الْحُجُرَاتِ: 13]، وخير زاد يصحبه الحجاج في نسكهم هو التقوى، قال سبحانه: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ: 197]، وَمَنْ أَمَّ البيتَ فحريٌّ به أن يلزم ورعًا يحجزه عن المعاصي، وحِلْمًا يَكُفُّه عن الغضب، وحُسْن عِشْرَة لمن يصحب، وأعظم ما يتقرب به العباد في حجهم إظهار التوحيد في مناسكهم وإخلاص الأعمال لله في قرباتهم، قال سبحانه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)[الْبَقَرَةِ: 196].
وإعلان وحدانية الله في الحج شعار أهله وبه شرفهم، لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريك لك لَبَّيْكَ، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
وَمَنْ حَجَّ مُوقِنًا بلقاء ربه فليتمسَّكْ بتوحيد الله وإفراده بالعبادة حتى الممات، قال جل وعلا: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الْكَهْفِ: 110].
وتكبيرُ الله وتعظيمُه أنيسُ الحجاج في طوافهم وسعيهم ورميهم ونحرهم وفي ليلهم ونهارهم؛ لتبقى القلوبُ متعلقةً بالله نقيةً عن كل ما سواه، الحج دَرْس في تحقيق الاتباع والتأسِّي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا نسك ولا عبادة إلا بما وافق هديه، قال عليه الصلاة والسلام: "لِتَأْخُذوا مناسِكَكم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" (رواه مسلم).
والاتباع دليل الصدق والإيمان والمحبة، قال عز وجل: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 31].
وكل عبادة على خلاف هديه -عليه الصلاة والسلام- فإن الله لا يقبلها، قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرنا هذا فهو رَدٌّ" (رواه مسلم).
ومن مقاصد الحج العظمى إقامة ذِكْر الله والإكثار منه، قال عائشة -رضي الله عنها-: "إنما جُعِلَ الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله" فذكر الله -تعالى- يصاحب الحجاج كلما أقاموا أو ارتحلوا وإذا هبطوا أو صعدوا، ولا يزال مرافقا لهم حتى انقضاء نُسُكِهم، قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[الْبَقَرَةِ: 200]، وأفضل الحجاج أكثرهم لله ذكرا.
الحج طاعة يصحبها طاعات، مليء بالمنافع والعبر والآيات، ففيه إخلاص القلب لله -تعالى- وتسليم النفس له عبوديةً ورِقًّا، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الحج مبناه على الذل والخضوع لله؛ ولهذا اخْتُصَّ بِاسْمِ النُّسُكِ".
وفي الحج يأتلف المسلمون وتقوى أواصر المحبة بينهم، فيظهر للخلق عظمة الإسلام وفضله، قال سبحانه: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)[الْأَنْفَالِ: 63].
وفي اجتماع الحجاج في موقف واحد إعلام وتذكير بفضل هذه الأمة وعلو شأنها، وزينةُ الحجاجِ إظهارُ جمالِ أخلاقِهم، وبه ينالون أعاليَ الدرجات، قال عز وجل: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[الْبَقَرَةِ: 197]، وفيه توطين النفس على الصبر، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ فقال عليه الصلاة والسلام لها: لكن أفضل الجهاد حج مبرور" (رواه البخاري).
والمسلم يعتز بدينه وينأى بنفسه عن أفعال الجاهلية وسلوكهم، وفي الحج تأكيد على ذلك تلو تأكيد، قال ابن القيم -رحمه الله-: "استقرَّت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لاسيما في المناسك".
وكل ساعة من العمر إن لم تقرب المرءَ من ربه أبعدته، والعباد في سعي حثيث إلى الله، ويتجلَّى للمرء ذلك في شعائر الحج ومناسكه، إن فرغ من عبادة نَصَبَ إلى أخرى، قال سبحانه: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)[الشَّرْحِ: 7]، وهذا نهج المسلم إلى الممات، قال عز وجل: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الْحِجْرِ: 99].
والطاعة تزيد صاحبها افتقارا إلى ربه وإخباتا، فيشهد فضل الله عليه بها ويستغفره على التقصير فيها، قال سبحانه: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْبَقَرَةِ: 199].
وَمَنْ كَفَّ نفسَه عن المحظورات في حجه حَرِيٌّ به أن يكفها عن المعاصي في كل زمان ومكان.
وبعد أيها المسلمون: فثمرة الحج إصلاح النفس وتزكيتها، والظفر برضا الله -تعالى- والفوز بجنات النعيم، ويتحقق ذلك للحاج إن أدَّى حجَّه بِنِيَّة صالحة خالصة، وعلى علم وبصيرة، ومن نفقة طيبة، وملأ قلبَه ولسانَه بذِكْر الله، ولازَمَ في حجه الإحسانَ إلى الخَلْق ونفعهم، مع حُسْن الخُلُق معهم.
وَمَنْ أَحْسَنَ في حَجِّه وابتعد عن قوادحه عاد منه بأحسن حال، وانقلب إلى أطيب مآل، وأمارة القبول فعل الحسنة بعد الحسنة، وترك التفاخر والعُجْب والطاعة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا.
أيها المسلمون: التفاضلُ بينَ الليالي والأيام داعٍ لاغتنام الخير منها، وعما قريب تحل بنا أفضل الأيام عند الله، قال عليه الصلاة والسلام: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر" (رواه ابن حبان).
أقسم الله بلياليها فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الْفَجْرِ: 1]، وكل عمل صالح فيها أحب إلى الله ما لو كان في غيرها، قال عليه الصلاة والسلام: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (رواه أبو داود).
فأكثِروا فيها من العمل الصالح من ذِكْر الله وتلاوة كتابه العظيم، قال عز وجل: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الْحَجِّ: 28].
ومما يُستحب في العشر: صيام التسعة الأولى منها، خُصَّ منها يوم عرفة لغير الحاج لمزيد من الفضل، فصيامه يكفِّر السنةَ الماضيةَ والباقيةَ، ومن العمل الصالح فيها المزيد من البر والإحسان إلى الوالدين والناس وصلة الرحم والصدقة والإكثار من نوافل العبادات، فالسعيد من اغتنم مواسم الخيرات قبل فواتها، وَبَادَرَ بالأعمال الصالحة ونافس السابقين فيها، والحياة مغنم للعباد، والموفَّق مَنْ عُدَّ في المحسنين.
ومن الأعمال الصالحة ذبح الأضحية يوم العيد وأيام التشريق، ومن أراد أن يضحي فلا يَأْخُذْ من شَعْرِهِ ولا من أظفاره ولا من بشرته شيئا بعد دخول شهر ذي الحجة حتى يضحي، أما الوكيل على الأضحية أو المضحَّى عنه فلا يلزمه شيء من ذلك.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وَزِدْ وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين؛ الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمَر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل اللهم هذا البلدَ آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم سلم الحجاج والمعتمرين، واحفظهم بحفظ واكلأهم برعايتك، وأعدهم إلى بلادهم سالمين غانمين مأجورين، واجعل حجهم مبرورا وسعيهم مشكورا يا شكور يا غفور.
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق وأعظم الأجر والمثوبة لكل من خدم الحجاج والمعتمرين، وارفع درجاتهم في عليين وفرج كروبهم يا قوي يا عزيز.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
اللهم أمن حدودنا واحفظ جنودنا وانصرهم بنصرك القوي العزيز يا رب العالمين،
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.