المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | صالح بن مبارك بن أحمد دعكيك |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الحج |
والكعبة بيت الله الحرام، ومهوى أفئدة الأنام، باركه الله واختصه بالخير، وأغدق عليه وعلى من حجَّ إليه سحائب رحمته وفيض غفرانه وأمنه وكرمه، وهي قبلة المسلمين ومتعبدُهم، يتجه إليه المؤمنون بقلوبهم ووجوههم أينما... بيت من دخله كان آمنًا، ومن لاذ به مستجيرًا من أوزاره مستغفرًا من خطاياه غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن...
الخطبة الأولى:
قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)، الكعبة هي أول بيت وضعه الله –عز وجل- لعباده في الأرض وجعله مثابة للناس وأمنًا، وفرض على عباده أن يشدوا الرحال إليه ليعظموا شعائر الله في تلك البقعة الطاهرة، وليؤدوا مناسك الحج والعمرة عند ذلك البيت الذي طهره الله للطائفين والعاكفين والركع السجود.
والكعبة بيت الله الحرام، ومهوى أفئدة الأنام، باركه الله واختصه بالخير، وأغدق عليه وعلى من حجَّ إليه سحائب رحمته وفيض غفرانه وأمنه وكرمه، وهي قبلة المسلمين ومتعبدُهم، يتجه إليه المؤمنون بقلوبهم ووجوههم أينما كانوا وحينما غدوا، فهي مصدر هداية وتقى روحية قدسية وطهارةً.
وقد جعل الله هذا البيت من الآيات ما زاده رفعةً ومكانةً وتعظيمًا، من ذلك مقام إبراهيم تخليدًا لذكرى هذا النبي الكريم الذي تولى بنفسه مع ولده إسماعيل رفع قواعد البيت: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ).
وقد كان الرجل في الجاهلية إذا جنى جناية ثم التجأ إلى الحرم أمن الطلب وكان في حرز مكين، فهو سند مَنْ لا سند له، وعصبية مَنْ لا عشيرة له، فلما جاء الإسلام لم يزدْ هذا البيت إلا تعظيمًا وتشريفًا وأمانًا لمن دخله وتكريمًا.
أيها المسلمون: في مثل هذه الأيام من كل عام يسعى المؤمنون إلى حج بيت الله الحرام عبودية لله وإظهارًا للافتقار إليه وإعلانًا لتوحيده -سبحانه وتعالى- وتبجله وإعظامًا لشرف بيته العتيق، وإظهارًا لمكانته وحرمته، ففي البيت من المفاخر والمآثر والآيات ما يزيده في القلوب رفعة وتكريمًا وإجلالاً وتعظيمًا، القلوب تهفو إليه، والأفئدة تهوي إلى قدسيته.
بيت من دخله كان آمنًا، ومن لاذ به مستجيرًا من أوزاره مستغفرًا من خطاياه غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن همَّ فيه بسوء أو بإلحاد وبظلم قمعه الله وردَّه وحال بينه وبين ما أراد، والله تعالى يحمي بيته ويدافع عن حماه، وتأتينا أصحاب الفيل الذين أرادوا هدم الكعبة لتعلن للخلق كافة قدسيته ومكانته المشرفة وإعظام الله تعالى وإعزازه وحده وحرمة بقعته وشرف مكانه، مما يملأ القلوب محبة له وإجلالاً وتكريمًا ورفعة.
وقد قصَّ الله لنا قصة أولئك المعتدين على كعبته وحرمه، حينما أراد أبرهة وجيشه الاستيلاء على اليمن، وبنى بها كنيسته العظيمة، بناها بالرخام والحجارة المنقوشة بالذهب، أراد بذلك أن يضاهي الكعبة المشرفة ويصرف إليها جميع العرب، فتسامع العرب بذلك، وكرهوا ما صنع، وغضبت قريش غضبًا شديدًا، فقصد بعضهم تلك الكنيسة، فأحدث فيها ولطَّخ جدرانها، بلغ ذلك أبرهة فغضب وحلف ليهدمن الكعبة، ثم جهَّز جيشًا كبيرًا اصطحب معه الفيلة وسار يريد مكة، وحاولت جماعات من العرب صدّه ومحاربته، فتغلب عليهم ولم يستطيعوا إيقافه، ولما كان أبرهة والحبشة يجهلون مسالك الطريق وشعابه في تلك الصحراء المترامية فقد تطوَّع ثلاثة من العرب بعد أن سألهم أبرهة ليدلُّوه والجيش على الطريق الموصلة إلى مكة، وكان على رأسهم أبو رغال، فما زالوا سائرين حتى أنزلوه وادي المغمَّس قريبًا من مكة، وفيه مات أبو رغال، فرجم العرب قبره مثالاً ورمزًا للخيانة، يفتدي المرء الطواغيت وأعداء الأمة ضد دينه وعقيدته ووطنه وأمته، فيلعنه الناس، ويلعنه التاريخ، فكم من أبي رغال اليوم في الأمة ممن باعوا ضمائرهم ودينهم وأمتهم وأوطانهم لأعداء الأمة!! هؤلاء ستكون أسماؤهم في مزابل التاريخ حين تلعنهم الأجيال وتحتقرهم الأمة.
ولمَّا بلغ الأحباش وديان مكة استدلوا على ما فيها من الإبل وكان فيها مائتا بعير لعبد المطلب جدّ النبي –صلى الله عليه وسلم-، وأرسل أبرهة إلى سيد أهل مكة ليخبره أنه ما جاء لحربهم، فجاء عبد المطلب فأجلَّه ونزل عن السرير وجلس معه على البساط وسأله عن حاجته فقال: أن ترد عليَّ إبلي، قال أبرهة: كنت أعجبتني حين رأيتك، وزهدني فيك كلامك، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه لا تكلمني فيه؟! قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب يمنعه ويحميه.
ثم قام عبد المطلب، وذهب إلى الكعبة، أخذ يلحف ببابها يدعو الله على أبرهة وجنده ثم قال:
لاهم إن العبد يمنع رحله فامـنع رحـالك
لا يغلبنَّ صلـيبهم ومحـالهم أبـدًا محالك
إن كنـت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم لك
ثم تهيأ أبرهة لدخول مكة وهيأ فيله، وكان على رأسهم فيل عظيم يسمى محمودًا، فأقبل نفيل بن حبيب حتى أخذ بأذن الفيل وقال: "ابرك محمودًا أو ارجع راشدًا من حيث أتيت، فإنك في بلد الله الحرام".
وقف الفيل ولم يتحرك تجاه الكعبة خطوة واحدة، فأقبل عليه الجنود يضربونه وينخسونه، ولكن لم يتحرك، وجعلوا لا يحركونه إلى جهة من سائر الجهات إلا ذهب إليها، وإذا وجهوه إلى الحرم ربض.
وبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر ثلاث أحجار صغار، واحدة في منقاره واثنتان في رجليه، فجعلت ترميهم بهذه الحجارة فلا تصيب أحدًا منهم إلا أهلكته وتساقط لحمه، فولَّوا هاربين تائهين وهم يتساقطون بكل طريق، وأُصيب أبرهة في جسمه، وتساقطت أعضاؤه وتناثر لحمه وهو يسيل قيحًا ودمًا، حتى قدموا به إلى صنعاء، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه.
وكان ذلك في السنة التي ولد فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسماة عام الفيل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابٍ أليم، وعصمني وإياكم من الشيطان الرجيم.
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
وهكذا حمى الله بيته وأهلك أصحاب الفيل وجعل كيدهم في خسران وتضليل، وأرسل عليهم جندًا من جنوده سبحانه، وما يعلم جنود ربك إلا هو، فما أشدّ غرور مَنْ تسول له نفسه أن يستطيع أن يحارب الله -عز وجل- وأن يستضعف بيته ودينه ظنًا منه بأن جنوده وأعوانه وسلاحه تمنعه من الله شيئًا، فطيور صغيرة ضعيفة فتكت بأمر الله وبقوته بأعظم الجيوش التي عجز العرب جميعًا عن محاربتها وصدّها عن البيت الذي يعظمونه، هكذا للدين رب يحميه وللبيت رب يمنعه.
ولا يُغلب الله، ولا ينجو من سطوته وقهره أحد مهما قَوِيَ وتعاظم، وما الملوك الأقوياء ولا الطغاة الأشقياء إلا هباءً في مهب رياح القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء في السموات ولا في الأرض.
فما أحرانا وأحرى المسلمين أن يعتمدوا على هذا الرب العظيم كل الاعتماد، وأن نعتز به كل الاعتزاز، وأن نطيعه ونتمسك بشرعه كي يدافع عنَّا ويحمي ديننا وأوطاننا ويهلك أعداءنا ويمنع كيدهم، ونستشعر الآن عظمة القدرة الإلهية ونحن نتلو هذه السورة: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ).