المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عبده نعمان العواضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - فقه النوازل |
إن المشكلات في عصرنا الحاضر تطورت بتطوره، وتعقدت بتعقده، وامتدت بامتداد آفاقه، واتسعت باتساع مجالاته، وأغلب هذه المشكلات تنصب في بوتقة المسلمين وفي بلدانهم، حتى لقد ظهر في هذا الزمن القاتم فن صناعة المشكلات وتصديرها لبلاد المسلمين...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1 ]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهدي هدي رسول الله محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: ذكر بعض الأدباء أن قوماً خرجوا للصيد في يوم حارٍّ، فطردوا ضبعاً حتى ألجئوها إلى خباء أعرابي فاقتحمته، فأجارها الأعرابي، وحال بينها وبينهم، وجعل يطعمها ويسقيها اللبن، وبقيت عنده بخير حال؛ فبينما هو نائم إذ وثبت عليه فبقرت بطنه وشربت دمه ومضت هاربة، وجاء ابن عم له يطلبه، فإذا هو بقير، والتفت إلى موضع الضبع فلم يرها فقال: هي التي فعلت فعلتها، والله لأجدنها وأخذ كنانته واقتفى أثرها حتى أدركها ورماها فقتلها، وقال:
ومن يصنع المعروف في غير أهله | يلاقِ الذى لاقى مجير أم عامر |
أعدَّ لها لما استجارت ببيته | أحاليب ألبان اللقاح الدرائر |
وأسمنها حتى إذا ما تمكّنت | فرته بأنياب لها وأظافر |
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من | يجود بمعروف إلى غير شاكر |
أيها المسلمون: إن المشكلة يسهل علاجها ما دامت في بداية أمرها، فإذا تُركت وغفل عنها تمكنت وتجذرت وتكاثرت وتوالدت، فيصعب عند ذلك حلها ويعسر قلعها؛ فلو أن هذا الأعرابي -لما أراد حماية الضبع حينما استجارت به من الصيادين- منعهم منها حتى إذا ذهبوا طردها عن خبائه لكان في سلامة من أذاها، لكنه آوى إليه المشكلة ورعاها بيديه حتى قضت عليه.
إن المشكلات -أياً كانت عامة أو خاصة، داخلية أو خارجية- إذا لم تُتلافَ عند ورودها استفحلت وتعاظمت، فتضاعفت عند ذلك جهود طردها وإذهابها؛ ولذلك يقول الفقهاء: "الدفع أولى من الرفع"، ويقول الأطباء: "الوقاية خير من العلاج".
عباد الله: لو رجعنا إلى بداية أمر العالم لوجدنا أن المشكلة عنصر مصاحب للخلق منذ نشأتهم على يدي أبوي المكلفين، وهما مازالا في السماء؛ فقد كانت مشكلة أبي الجن إبليس هي الشبهة التي قامت على الحسد والعُجب، فولدت الاستكبار والعداوة، وساقت صاحبها إلى الطرد من رحمة الله -تعالى- الذي آل قسمه ووعيده بإغواء ذرية آدم وعدائهم.
وأما أبو الإنس آدم -عليه السلام- فكانت مشكلته هي الشهوة التي قادته إلى الآكل من الشجرة التي منع الأكل منها، فكانت سبب خروجه من الجنة. لكنه تاب إلى ربه -تعالى- فتاب الله عليه؛ لتعلم ذريته أن حل المشكلة راجع إلى صلاح النفس برجوعها تائبة إلى خالقها، قال تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة:37].
ومنذ ذلك الوقت انخرط عقد المشكلات، وبدأ الصراع بين الحق والباطل، فخُلقت سنة المدافعة بين الخير والشر.
أيها الأحبة: إن المشكلة تنشأ بين الخلق بسبب تعارض المصالح واختلاف الأهواء والمعتقدات، وما حصل التنازع والحروب والفوضى إلا وهي ترتكز على هذه المنطلقات. والإنسان هو من يحدث المشكلة بنفسه؛ إما بكسبه لوسائلها، وإما بغفلته عن طلائعها ووصولها إليه.
إن المشكلات في عصرنا الحاضر تطورت بتطوره، وتعقدت بتعقده، وامتدت بامتداد آفاقه، واتسعت باتساع مجالاته، وأغلب هذه المشكلات تنصب في بوتقة المسلمين وفي بلدانهم، حتى لقد ظهر في هذا الزمن القاتم فن صناعة المشكلات وتصديرها لبلاد المسلمين بعد ذلك؛ فإن وجدت مشكلة بين المسلمين سلط الأعداء عليها الأضواء ومدوا مداها، وخلقوا فيها مشكلات جديدة حتى تتكاثر وتستمر؛ فإن لم يكن لدى المسلمين مشكلة صنعوا لهم مشكلة جديدة؛ ليبقوا سابحين فيها باحثين عن شواطئ السلامة؛ حتى لا يفكروا بالعدو الذي يتربص بهم، وهذا من الحرب الناعمة التي انتهجها أعداء الإسلام من غير تكاليف بشرية أو مادية يخسرونها.
أيها المسلمون: هناك مشكلات كثيرة يعانيها المسلمون اليوم: مشكلات داخلية، ومشكلات خارجية. وهذه المشكلات ترجع في الغالب إلى أربع مشكلات رئيسة:
الأولى: الجهل بدينهم، الذي جعلهم ينحون شريعة ربهم عن واقع حياتهم، ويقبلون بلهث وانشغال بدنياهم التي أنستهم أمر دينهم.
والثانية: عدم التحاكم إلى القرآن والسنة فيما يجري بينهم.
والثالثة: اختلافهم وفساد أنظمة الإدارة الحاكمة فيما بينهم.
والرابعة: تبعيتهم لعدوهم، وانهزامهم أمامه في كل ميدان، والنظر إليه بعين الإكبار والإجلال. ويمكن أن ترجع هذه المشكلات إلى مشكلتين هما: اتباع الشهوات، والتأثر بالشبهات.
أيها المسلمون: إن المشكلات لابد أن تكون لها حلول وعلاج طال وقت الحل أم قصر. والمشكلة العظيمة لا ينجع معها الحل الآني السريع، بل تحتاج إلى تأنٍ واستيعاب للمشكلة حتى تعالج من جميع جوانبها. والعقلاء يسعون لحل مشكلاتهم بكل وسيلة ممكنة، ونحن المسلمين لو كانت لدينا نية صحيحة لحل مشكلاتنا لاستطعنا ذلك.
إن المشكلات الكبيرة تحتاج إلى جهود كبيرة؛ فلو قام كل مسلم بدوره بصدق لحلت مشكلاتنا؛ لأن هناك مشكلات ليست حلولها بأيدي الشعوب المسلمة، بل بأيدي حكامها وأصحاب القرار فيها، وهناك مشكلات حلولها ليست بأيدي الحكام، بل بأيدي الشعوب نفسها. وهناك مشكلات حلولها بأيدي العلماء والخبراء والمتخصصين، وهناك مشكلات حلها بأيدي جميع المسلمين على اختلاف تخصصاتهم.
عباد الله: إن المبادرة للبحث عن الحلول هي أول طرق الحل؛ ولهذا كان أصحاب رسول الله إذا نزلت بهم مشكلة عامة أو خاصة بادروا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باحثين عن الحل، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء83]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء59].
إننا لو رجعنا إلى دين الله -تعالى- إلى الكتاب والسنة لنبحث عن حلول مشكلاتنا لوجدنا الحلول الناجحة؛ لأن هذا الدين هو الذي رضيه الله لنا لإصلاح دنيانا وأخرانا، فلما ابتعدنا عنه كثرت مشكلاتنا، فلو رجعنا إليه لحلت كل المشكلات التي غرقنا فيها.
أيها الاخوة الكرام: مع تزايد المشكلات التي تحاصر المسلمين داخلياً وخارجياً إلا أن العزم الصادق عند المسلمين مازال ضعيفاً جداً؛ بسبب ضعف التمسك بالدين، ووجود المصالح الشخصية من استمرار الأزمات، وانتظار ما يتفضل به الغرب علينا من حلوله التي هي في الحقيقة تصعيد للمشكلات وبدائل شيطانية يريدون من ورائها استكمال حِلق السيطرة علينا من كل جانب.
أيها المسلمون: من المشكلات الداخلية التي يعانيها المسلمون: القلة والضعف، فالناظر لأحوال المسلمين اليوم يجدهم قلة ضعفاء أمام العدو المتجبر على اختلاف ملله، وزاد الطين بلة وجودُ الانقسامات الداخلية الحسية منها والمعنوية. لقد عانت طليعة الإسلام الأولى الضعف والقلة بين المشركين في مكة، فماذا كان حل هذه المشكلة عندهم؟ لقد نزلت الآيات القرآنية حاثة على التكافل والتعاون والحب والإخاء، وزادها رسوله -صلى الله عليه وسلم- بياناً بقوله وبفعله. بل حينما وصل رسول الله عليه الصلاة والسلام المدينة أقام بين المهاجرين والأنصار مبدأ الإخاء القائم على تقاسم السراء والضراء بينهم، فصاروا بهذا العلاج أمة واحدة وجسداً واحداً، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)آل عمران:103].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"(متفق عليه)، وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"( رواه مسلم).
فلو تكافل المسلمون وتعاونوا، وتراحموا وتعاطفوا لصاروا قوة مهيبة الجانب، فلا يتجرأ عليها عدو يستبيح حرماتها، قال النابغة:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له | وتتقي حومة المستأسد الحامي |
عباد الله: ومن المشكلات: مشكلة الفقر والبطالة في كثير من بلدان المسلمين، حتى لقد صار يطلق على دول العالم الإسلامي: دول العالم الثالث؛ لفقرها وقلة تحضرها وتطورها، والحقيقة أن بلاد المسلمين بلاد غنية لو استثمرتها أيادٍ أمينة، ولكن مشكلة المشكلة أن خيراتها لتلك الدول الكفرية المتحضرة بأساليب مباشرة وغير مباشرة. فلو كان خيرها لها لقل الفقر والبطالة. هذا جانب، ومن جانب آخر فقد جاءت التشريعات الإسلامية الحكيمة بشرع فريضة الزكاة والحث على الصدقة والحث على العمل والتكسب واستثمار خيرات الأرض. فالزكاة لو أخذت على من وجبت عليهم بقدرها وصرفت إلى مستحقيها كما ينبغي لقُضي على الفقر والبطالة، وتأتي الصدقات بعد ذلك محسنة ومتممة، وحينما تتوفر الأعمال ينطلق المسلم إلى التكسب والعمل؛ ففي الزكاة قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة60].
وفي الصدقة قال: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[آل عمران:92]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[البقرة:267].
وفي العمل قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الملك15].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"(رواه البخاري).
معشر المسلمين: ومن المشكلات: مشكلة الاختلاف والتنازع، وهذه من أعظم المشكلات الحاصلة بين المسلمين، فقد قضت على قوتهم وإخائهم، وعلى تطورهم وتقدمهم، وعلى تحرر قراراتهم، وعلى استمرار سيادتهم على غيرهم. لقد صارت اليوم منطقة العالم الإسلامي والشرق الأوسط خصوصاً منطقة الصراعات الداخلية، والحروب الأهلية التي لا تنتهي، حتى لقد شكلت مادة إعلامية خصبة في وكالات الأنباء العالمية،؛ حتى يقلوا لغير المسلمين: انظروا ماذا يصنع المسلمون، وماذا يدور في بلدانهم!!؛ من أجل الصد عن دين الله -تعالى-.
هذه المشكلة تعالج بتذكير المسلمين بالإسلام الذي جمعهم، والإخاء الذي ألفهم، والنتائج السيئة التي ولدها هذا الاختلاف والتنازع. لقد حدث اختلاف الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليهم، حينما أشعل أعداء الدين فتيل التنازع بينهم دون أن يشعروا، لكن انظروا كيف عالج رسول الله المشكلة: "قال ابن إسحاق: مر شاس بن قيس ـ وكان شيخاً يهودياً قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَ بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتي شاباً من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة ـ يعني الاستعداد لإحياء الحرب الأهلية التي كانت بينهم ـ وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة: الحَرَّة ـ السلاح السلاح، فخرجوا إليها، وكادت تنشب الحرب. فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم"؟!
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس".
وما أشبه الليلة بالبارحة، فاليهود والنصارى وأولياؤهم اليوم يسيرون على منوال شاس بن قيس في تأجيج الصراع بين المسلمين، فهلا استيقظنا فعرفنا مكر عدونا؟.
عباد الله: ومن المشكلات: مشكلة التعدي على الحقوق من النفس والمال والعرض، وهذه أم الجرائم التي تلد جرائم أخرى، فيعيش الناس في ظلها في خوف وقلق، وركود عن الإنتاج والعمل. لقد حصلت السرقة في عهد رسول الله صلى عليه وسلم فقطع يد السارق، وحصل الزنا فجلد البكر ورجم المحصن، وحصلت أعمال توجب القصاص فقتل رسول الله أهلها، فعاش المجتمع بعد هذا العلاج آمناً على نفسه وماله وعرضه. فلو طبقت حدود الله على أهلها كيف سيكون المجتمع!. إن إقامة حدود الله على أصحابها صِمام أمان للناس، وحصن حصين يصد عنهم سطوة الباغين وشراهة المفسدين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا"(رواه أحمد والطبراني، وهو حسن).
ومن المشكلات العظيمة: مشكلة الأيادي الخفية التي تعبث داخل البلاد الإسلامية، وتصير عيوناً للأعداء، فهناك قوم لم يخالط الإيمان قلوبهم قد مرقوا من الدين؛ حباً للدنيا وكراهية لتعاليم الإسلام، وطمعاً فيما ينالونه من أعداء الدين مكافأة على عملهم الخبيث في نقل أسرار المسلمين وإيجاد الاضطرابات بينهم، إنها مشكلة النفاق والمنافقين. وهذا ليس غريباً فقد حصل ذلك في المجتمع المدني أيام رسول الله، فواجههم رسول الله بالصبر والحلم والحذر واليقظة، والردع والزجر، وعدم توليتهم مناصب تأثير في المجتمع الإسلامي.
لقد تطور بالمنافقين الحقد في عهد رسول الله فعزموا على بناء مقر لاستقبال أعداء الإسلام في المدينة وسموه خداعاً مسجداً، فجاء الوحي رسولَ الله ليخبره بعمل المنافين مسجد الضرار، فأمر رسول الله بهدمه وحرقه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)[التوبة107-108].
وفي بلاد المسلمين اليوم أوكار للفساد المتنوع بين المسلمين، تعمل لتنفيذ أهداف خارجية لزعزعة المجتمعات المسلمة، أفلا ينبغي أن يصير مآلها مآل مسجد الضرار بعد أن تبين خطرها وضررها على البلاد والعباد؟! نسأل الله أن يصلح أحوالنا ويعيننا على حل مشكلاتنا.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون: تلكم المشكلات الداخلية وعلاجها، أما المشكلات الخارجية، فمنها:
مشكلة شدة الإيذاء والتضييق على الإسلام والمسلمين في بعض البلدان التي يمثل فيها المسلمون أقلية، فكم يواجه المسلم الحريص على التمسك بدينه من تضييق وصعوبات، حتى صار غريباً في المجتمع. بل العجيب أنه يواجه هذه الغربة في بلاد المسلمين، وقد يجد من السعة والفسحة في خارجها ما لا يجده فيها. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء"(رواه مسلم).
لقد كان التضييق على أشده على الثلة المؤمنة الأولى في مكة، فعالجها رسول الله بالصبر والتصبير، والتفاؤل والتبشير، والهجرة. يمر على أسرة ياسر فيقول: "صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة".
وعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟ قال "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون"(رواه البخاري).
عباد الله: ومن المشكلات: التهديد والوعيد من قبل أعداء الله؛ فكم يتوعدون المسلمين ويتهددونهم بالاستئصال والحروب المتنوعة، ويسخرون إعلامهم الواسع في ذلك، لقد حصل مثل هذا لرسول الله وأصحابه، فعالج رسول الله ذلك بإعداد العدة وتربية الصحابة -رضي الله عنهم- على الثقة بالله واليقين بحمايته ونصره، قال تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة40]، وقال: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)[الأنفال60]، وقال: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران:173-174].
ومن المشكلات الكبيرة: مشكلة حرب المسلمين والاعتداء عليهم، وهذه المشكلة التي تبكي العيون وتدمي القلوب حينما يرى المسلم الغيور على دينه المحب لإخوانه أعداء الله يتعدون على ديار المسلمين، ويقتلون مئات الآلاف بل الملايين من المسلمين والشعوب المسلمة تتفرج، أو تندد وتعقد القمم والمؤتمرات التي لا تجدي في الأمر شيئاً، وقد قال العرب في الأمثال: "الحديد بالحديد يُفلَح"، وقالوا أيضاً: "ادفع الشر بمثله إذا أعياك غيره"؛ فإنه لا يوقف العدوان إلا القوة، فلا مكان للضعفاء بين العالم. ولذلك قام رسول الله والخلفاء الصالحون من بعده بإعداد الجيوش والدفاع عن بيضة الإسلام وفتح البلدان وكبح جماح كل من يطمع في غزو بلاد المسلمين والاعتداء عليهم، قال تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ)[البقرة:190]، وقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].
هذا وصلوا وسلموا على النبي الكريم...