الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | راشد البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
لقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في التراحم والترابط، كبيرهم يرحم صغيرهم، وصغيرهم يرد له الرحمة بالاحترام والتوقير.. أما الثانية وهي توقيرهم لكبار السنّ فيهم فهي العجب العجاب.. وإليكم الآن قصة مؤثرة شاهدة على احترامهم للمسنين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدنه، حمدًا لا انقطاع لراتبه ولا إقلاع لسحائبه. وإن كانت آلاؤه لا تجارى لا تجازى، ولا توازى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين؛ (فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ)[يونس: 32].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أعلمُ الخلق بربه، وأخشاهم وأتقاهم له، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة المتقين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فاتقوا الله؛ فتقواه خَلَفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خَلَف.
لقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في التراحم والترابط، كبيرهم يرحم صغيرهم، وصغيرهم يرد له الرحمة بالاحترام والتوقير.. أما الثانية وهي توقيرهم لكبار السنّ فيهم فهي العجب العجاب. كيف وقد وصفهم ربهم بأنهم: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الفتح: 29].
وإليكم الآن قصة مؤثرة شاهدة على احترامهم للمسنين منهم:
فعن المِسْور بنِ مخرمة قال: خرجنا حُجاجًا مع عمر بنِ الخطاب، فنزلنا منزلاً بطريق مكة، يقال له الأبواء، فإذا نحن بشيخ على قارعة الطريق، فقال الشيخ: يا أيها الركب؛ قِفُوا، فقال عمر: قِفُوا، فوقفنا، فقال عمر، قل يا شيخ. قال: أفيكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال عمر: أمسِكوا؛ لا يتكلَّمَنَّ أحد، ثم قال: أتعقل يا شيخ؟ قال: العقلُ ساقَني إلى ها هنا، قال: تُوُفِّيَ النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال: وقد تُوُفِّيَ -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، قال: فبكى، حتى ظنَنَّا أن نفسه ستخرج من بين جنبيه. ثم قال: فمن ولي أمر الأمة من بعده؟ قال: أبو بكر. قال: نحيف بني تَيْم؟ قال: نعم. قال: أفيكم هو؟ قال: لا، قال: وقد تُوُفِّيَ؟ قال: نعم. قال: فبكى حتى سمعنا لبكائه شَحِيجًا.
ثم قال: فمن ولي أمر الأمة بعده؟ فقال: عمر بن الخطاب. قال: فأين كانوا عن أبيض بني أمية؟ -يريد عثمانَ بنَ عفان-؛ فإنه كان ألْيَن جانبًا، وأقْرَبَ. قال: قد كان ذلك، قال: إن كانت صَدَاقة عمرَ لأبي بكر لمسَلَّمة إلى خير، أمنكم هو؟ قال: هو الذي يكلِّمك منذ اليوم. قال: أغِثْني؛ فإني لم أجد مُغيثًا.
قال: ومن أنت بلغك الغوث؟ قال: أنا أبو عقيل، أحد بني مُلَيْل؛ لقيت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- رَدْهة بَنِي جُعل، دعاني إلى الإسلام، فآمنتُ به، وصدَّقتُ بما جاء به، سقاني شربةً من سَويق؛ شرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوَّلَها، وشربتُ آخرَها، فما برحْتُ أجد شِبَعها إذا جِعت، ورِيَّها إذا عطشتُ، وبَرْدها إذا أصبحتُ، ثم تيمَّمْتُ في رأس الجبل الأبيض، أنا وقطعة غنم لي، أصلي في يومي وليلتي خمسَ صلوات، وأصوم شهرًا وهو رمضان، وأذبح شاةً لعشر ذي الحجة أنسُك بها؛ ذاك علمي.
حتى ألقَتْ بها السَّنَة –أي القحط- فما أبقت لنا منها إلا شاة واحدة، كنا ننتفع بدَرَّتها، فغبَنَها الذئب البارحة الأولى، فأدركْنا ذكاتها، فأكلنا، وبلَغْناك ببعض، فأغِثْ أغاثك الله، فقال عمر: بلَغَك الغوث، بلغك الغوث، أدركني على الماء.
قال المسور بن مخرمة: فنزلنا المنزل، وأصبنا من فضل زادنا، وكأني أنظر إلى عمر متعَبًا على قارعة الطريق، آخذًا بزمام ناقته، لم نَطْعَم طعامًا، ما ننتظر للشيخ ونرمُقه، فلما رحل الناس دعا عمر صاحب الماء، فوصف له الشيخ وجلَّاه له، وقال: إذا أتى عليك فأَنْفِقْ عليه، وعلى آله حتى أعود إليك - إن شاء الله -.
قال المسور: فقضينا حجنا، وانصرفنا، فلما نزلنا المنزل دعا عمر صاحب الماء، فقال: هل أحسست الشيخ؟ قال: نعم؛ يا أمير المؤمنين، أتاني وهو موعوك، فمرض عندي ثلاثًا، فمات"، ودفنته، وهذا قبره.
فكأني أنظر إلى عمر، وقد وثب مباعِدًا بين خطاه، حتى وقف على القبر، فصلى عليه، ثم انضجَعَ، فاعتنقه، وبكى، حتى سمعنا لبكائه شَحِيجًا، ثم قال: كره الله له مِنَّتَكُم، وسَبَقَ به، واختار له ما عنده -إن شاء الله-. ثم أمر بأهله، فحُملوا معه، فلم يزل ينفق عليهم، حتى قُبض. (تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (44 / 351 و 352).
أرأيتم كيف أن الله اختار لنبيه أفضل جيل مر على التاريخ، فكانوا كما قال ربنا: (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الحشر: 9].
فنعم؛ مجتمعنا بعموم يقدِّر ذا الشيبة المسلم، ويوقره، والكثير يقبِّل رأسه.
نعم؛ نحن -بحمد الله- نوسِّع لكبير السن في المجلس، ونُفسح له الطريق، ونساعده على النهوض، ونُمسك بيده؛ ليسيرَ فلا يتعثر أو يتأخر.
نعم؛ قد نستمع لقصصه وذكرياته، ولو كرَّرها، ونؤنسه بالمجالسة والمحادثة.
نعم قد نزوره لكرامته، ونعوده لمرضه وكِبره.
نعم؛ إنها جميلة محببة كل هذه الأمور العشرة، وهي دليل على حسن المعاشرة.
ولكن ثمت أمر نغفل عنه كثيرًا في حق المسنين ذوي الشيبة والضعفاء في أبدانهم. إنه إسداء المعروف دون إظهار المِنَّة والامتنان، ودون تبجح وإعلان.
إنهم وإنهن يدعون ويلِحُّون: اللهم لا تحوجني لأحد، كل ذلك منهم خوفًا من مِنَّة زوجة ولد، أو حتى قريب يمُنُّ، أو ذي رحم يمْتَنُّ، وتلك لعمر الله قاصمة الظهر على من احدودب منه الظَّهر.
وأسوتهم في هذا قول الحق –سبحانه-: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى)[الليل: 19] متَّبعين ما صحَّ في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَغْنُوا عَنِ النَّاسِ وَلَوْ بِشَوْصِ سِوَاكٍ"(رواه البزار 96، والطبراني 3/154 وصححه الألباني في الصحيحة 1450). أي ما يتفتت منه. أي استغنوا ولو بأقل القليل، ولذا قال جبريل لنبينا -صلى الله عليه وسلم-: "اعْلَمْ أَنَّ عِزَّ الْمُؤْمِنِ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ"(قال ابن حجر: إسناده حسن).
ألا فليعش كبار السن بيننا بقية أعمارهم وهم رافعو رؤوسهم، لا يحتاجون لأحد بمِنة، ولا يلجؤون إليه بذِلَّة.
اللهم اجعلنا وإياهم ممن طال عمره وحسن عمله.
اللهم بارك في أعمارنا وأمدَّها على طاعتك.
ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا وأن نعمل صالحًا ترضاه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اللهم ابسط على والدينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم ألبسهما العافية.
اللهم اجعلهما في ضمانك وأمانك وإحسانك اللهم ارزقهما عيشًا قارًّا, ورزقًا دارًّا, وعملاً بارًّا.
اللهم اجعل مليكنا ونائبه وأمراءه ووزراءه وجنودنا في ضمانك وأمانك وإحسانك.