الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله الهذلول |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - الصيام |
لكن جانبًا مهمًا في الإعلام ركز جهوده لإشغال الناس عن طاعة الله وصرفهم عنها، من خلال المسلسلات الهزيلة التي لو كانت مباحة لتعين تأجيلها عن هذا الظرف العصيب الذي يمر به المسلمون الآن، كيف وهو لا يتحرج من عرض مسلسلات مُوَجَّهةٍ وموجِّهة، الغرض فيها أقل ما يقال فيه الهزل والضحك وتضييع الوقت في غير فائدة؟!
أما بعد: مضى في الخطبة الماضية الكيفية التي عبأ بها المظفر قطز حاكم مصر، عبأ فيها الناس استعدادًا للقتال، وكان ذلك بعد سقوط بغداد بأيدي التتر بسنتين.
فيا ترى، وحال المسلمين اليوم من التمزق والهزيمة والذل ما لا مزيد عليه مما تعلمون، فماذا أعد الإعلام للصائمين؟! وبماذا يعبئهم؟! هل هو تحبيبهم للجهاد وذكر فضائله وإثارة النخوة الإسلامية تجاه إخوانهم الذين يقتلون ويشردون وتنتهك حرماتهم؟! أم أن الإعلام اكتفى بترغيب الناس في الصدقة والبذل والتزود من الطاعات والحرص على قراءة القرآن وصلاة التراويح؟!
تقوم الأجهزة الإعلامية مشكورة بنقل وقائع صلاة التراويح من المسجد الحرام ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقامت وزارة الشؤون الإسلامية بعمل غير مسبوق هذا العام 1424هـ، تمثل بترجمة فورية مكتوبة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية أثناء صلاة التراويح؛ ما كان له أثر بالغ على نفوس المشاهدين حتى غير المسلمين، وذلك على مستوى العالم كله، كل هذا تم عن طريق التليفزيون السعودي مشكورًا.
لكن جانبًا مهمًا في الإعلام ركز جهوده لإشغال الناس عن طاعة الله وصرفهم عنها، من خلال المسلسلات الهزيلة التي لو كانت مباحة لتعين تأجيلها عن هذا الظرف العصيب الذي يمر به المسلمون الآن، كيف وهو لا يتحرج من عرض مسلسلات مُوَجَّهةٍ وموجِّهة، الغرض فيها أقل ما يقال فيه الهزل والضحك وتضييع الوقت في غير فائدة؟!
فما بالك إذا عُرضت بعض المسلسلات متضمنة السخرية من العلماء والمتدينين، وتعرض مواقف مكذوبةً عنهم؛ بحجة معالجة الأخطاء وإخضاع شرائح المجتمع للنقد والتصحيح، وبدعوى الغيرة على فئات المجتمع كافة؟!
لكننا نتساءل: أين غيرة القائمين على هذه البرامج من السلوكيات الشاذة والضارة بالمجتمع، والتي لا يقرها الشرع إطلاقًا؟! لماذا لا تقف عندها نقدًا وتجريحًا وسخرية، أو لأن مَن وراء تلك الأعمال ليسوا محسوبين على المتدينين؟!
أين ألسنتهم من حوادث المرور التي يذهب ضحاياها العشرات يوميًّا قتلى وجرحى، وبلغت خسائرها المادية واحدًا وعشرين ألف مليون ريال سنويًّا حسب الإحصائيات المعلنة؟! وأين هم من معالجة الفشل الدراسي عند الطلاب ومشاكل الخريجين من الجامعات والمعاهد المتخصصة؟!
هل يريدون تقسيم المجتمع إلى فئة متدنية وأخرى منفلتة من ضوابط الشرع؟! لماذا لا يُعلِّمون أنفسهم آداب المواطَنة الصالحة التي من أبرزها العمل والسعي على تماسك المجتمع وتعاونه؟! أم أنهم لا يعالجون ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وليسوا على مستوى المعالجة، ولن ننتظر منهم ذلك؟!
إنما الشيء الذي نؤمله أن توقف تلك الممارسات فإنها فتنة، والله تعالى يقول محذرًا من السكوت عنها: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25]، أي: لا تصيب الظالمين وحدهم، بل تصيب معهم من لم يغير المنكر، وتراخى في تغييره، ولم ينه عن الظلم وإن كان لم يظلم.
إن اتقاء هذه الفتنة يكون بالنهي عن المنكر وقمع أهل الفساد والشر والعابثين بقيم المسلمين، وأن لا يمكنوا من التمادي في المعاصي، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نزلت هذه الآية: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً)، في أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-".
وقال السدي: "نزلت في أهل بدر خاصة". وقال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين أن لاَّ يُقِرُّوا المنكر فيما بينهم، فيعمهم الله بالعذاب".
وقد تأولها الزبير بن العوام -أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم-، تأولها يوم موقعة الجمل سنة ست وثلاثين للهجرة، فقال: "ما علمت أنَّا أُردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب ذلك الوقت". وكذلك تأولها الحسن البصري والسدي وغيرهما.
عباد الله: إن منْكرَ السخرية بالدين أو بمن يحملونه منكٌر عظيم، نزل القرآن ببيانه. ولا تلتفت -أيها المسلم- لمن يقول: إن الفن للمتعة فقط، في حين أن وظيفة الخطبة مثلاً هي الفائدة، كما لا تلتفت لمن يقول: هناك فرق بين نقد الدين ونقد الذين يقومون ببعض وظائفه؛ كالأئمة والمؤذنين والدعاة والوعاظ والعلماء، لا تلتفت إليهم لأنّ المؤدى والنتيجة والثمرةَ واحدة، هي إظهار كل من يتديّن بأن سلوكه هكذا: شديد وعنيف وغير متفهم، ولا يعرف اللباقة وحسن المخاطبة ومعالجة المشاكل.
وإلا لماذا يُظهرون أحدَ رجال المرور بلحيته يتعامل بحدّة وقسوة مع السائقين المخالفين، بينما يُظهرون آخر بدون لحية ويتعامل مع السائقين المخالفين تعاملاً حضاريًا كما يقال. والأمثلة في هذا كثيرة، ليس الآن مجال ذكرها.
معاشر المسلمين: لقد نزل القرآن الكريم فاضحًا هذا المسلك في نبذ المتدينين، فقال تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة: 64-66].
قال الإمام الطبري وغيره عن قتادة: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يسير في غزوة تبوك وركْبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: انظروا، هذا يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر! فأطلعه الله سبحانه على ما في قلوبهم وما يتحدثون به، فقال: "احبسوا عليّ الركب"، ثم أتاهم فقال: "قلتم كذا وكذا؟!". فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب، يريدون: كنا غير مجدين.
وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر قال: "رأيت قائل هذه المقالة وديعة بن ثابت متعلقًا بحَقَب ناقةِ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ). قال القاضي أبو بكر بن العربي: "لا يخلونّ أن يكون ما قالوه من ذلك جدًّا أو هزلاً، وهو كيفما كان كفرٌ".
دين الله تعالى -أيها المسلمون- شأنه عظيم، لم ينزل به الروح الأمين جبريل على محمد –صلى الله عليه وسلم- ليكون مجالاً للسخرية والاستهزاء، وقد سمعتم في الآيات السابقة وكلام أهل العلم عليها أن السخرية والضحك الذي صدر من أولئك الركب لم ينصبَّ على الدين مباشرة، وإنما كان موجهًا على من يحملونه، ومع ذلك أنذِرَ الساخرون بالعذاب الذي -إن تخلّف عن بعضهم لمسارعتهم إلى التوبة وإلى الإيمان الصحيح- فإنه لن يُصرف عن بعضهم، الذي ظلّ على نفاقه واستهزائه بآيات الله ورسوله وبعقيدته ودينه.
وقد يقول قائل: كيف أنكر؟! وهل مثلي يمكنه ذلك؟!
والجواب: نعم، تنكر أولاً بمعرفتك حكمَ ذلك شرعًا، واستشعارِه في قلبك، وكرهِك لأولئك الساخرين، وتحذيرِ الناس من شرهم ومغبة السكوت عنهم، كما تنكر -إذا استطعت- بالكتابة إلى الصحف أو بعضها بنقد تلك المسلسلات، وأنها لا تعبّر عن وجهة نظر المسلمين في هذه البلاد وغيرها، والمناداة بوجوب إيقافها ومعاقبة المستهزئين، ولا تتقالَّ -أيها المسلم- أي عملٍ تقوم به أو يقوم به غيرك في هذا الصدد.
إن محاولاتِ أولئك واهمة للنيل من قيم هذا المجتمع، وهي وإن نجحت ظاهريًا في تحقيق بعض أهداف القائمين على المسلسلات المضِلة لكنها تُدمغ إن شاء الله بقذائف الحق المتمثل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 18]، يدمغه فيصيبه في الدماغ، فلا تراه بعدها إلا محطمًا وخائبًا وخاسرًا، كما يقول أهل العلم.
ولكن الأسف على أقوام حظهم من رمضان إضلال الناس والسعي في تمييع قيمهم ومثلهم ودينهم، وفي الوقت الذي نجد فيه أقوامًا يسارعون في الخيرات رغبًا ورهبًا نرى أولئك يزيدون من رصيد الذنوب والمعاصي، فعياذًا بالله من الحرمان ودرك الشقاء.
الخطبة الثانية
لم ترد.