القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | عبد الكريم بن صنيتان العمري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحكمة وتعليل أفعال الله |
إن قتل النفس التي حرَّم الله -تعالى- إلا بالحق من أحرم الحرام، ومن أفظع الأعمال جرمًا وأكبرها إثمًا، وقد توعد الله قاتل المؤمن عمدًا بأنواع العقوبات، كل واحدة أعظم من الأخرى، وأنزل غضبه عليه...
الخطبة الأولى:
قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت:30]؛ إن الإقرار بوحدانية الله -تعالى- وربوبيته يتطلَّبُ الاستقامة في القول والعمل؛ إذ ليس بعد الإيمان بالله إلا إلزام النفس بالعمل الصالح، ومن أعلى مراتب الاستقامة أن يظل المسلم محافظًا على فرائض دينه، ملتزمًا بشعائر الإسلام، منتهيًا عن كل ما يخدش إيمانه، أو يجره إلى الزيغ والانحراف، أو يأخذ به إلى طرق الشيطان وحزبه، الذين يزينون للإنسان فعل المحرمات وارتكاب الجرائم والمنكرات.
وإن من أبشع الأفعال التي تنافي الإيمان الصادق جريمة القتل العمد للنفس المؤمنة التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فهي الكبيرة التي لا تُرتَكبُ وقلبُ القاتلِ محشوٌّ بكمال الإيمان وصدقه؛ لأنه في دين الإسلام لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق ما بين المسلم والمسلم من رابطة العقيدة وعلاقة الأخَّوة الإيمانية، ومن ثَمّ لا يقتل المؤمنُ المؤمنَ أبدًا، اللهم إلا أن يكون ذلك القتل خطأ.
قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً)[النساء:92]، وقد ورد في سبب نزولها: أن أبا الدرداء –رضي الله عنه- كان في سرية، فعمد إلى شعب لقضاء حاجته، فوجد رجلاً من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف، فقال الرجل: لا إله إلا الله، فضربه أبو الدرداء بالسيف فقتله، ثم وجد في نفسه شيئًا، فأتى النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلكَ له، فقال: إنما قالها ليتقي بِها القتل، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "ألا شققتَ عن قلبه، فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه، فكيف بلا إله إلا الله؟! فكيف بلا إله إلا الله؟!" قال أبو الدرداء: حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي، فنزل قوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً) الآية.(رواه الطبري).
قال المفسرون: تضمَّنت الآية الإخبار بعدم جواز إقدام المؤمن على قتل أخيه المؤمن بأسلوب يستبعد احتمال وقوع ذلك منه إلا أن يكون خطأ، حتى لكأن صفة الإيمان منتفية عمن يقتل مؤمنًا متعمدًا؛ إذ لا ينبغي أن تصدر هذه الجريمة النكراء ممن يتصف بالإيمان، لأن إيمانه -وهو الحاكم على تصرفه وإرادته- يمنعه من ارتكاب جريمة القتل عمدًا.
إن قتل النفس التي حرَّم الله -تعالى- إلا بالحق من أحرم الحرام، ومن أفظع الأعمال جرمًا وأكبرها إثمًا، وقد توعد الله قاتل المؤمن عمدًا بأنواع العقوبات، كل واحدة أعظم من الأخرى، وأنزل غضبه عليه، قال -جل شأنه-: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء:93]. إن قاتل المؤمن تنتظره هذه العقوبات الأربع: الخلود في نار جهنم، مع الغضب واللعن والطرد والإبعاد عن رحمة الله، والعذاب العظيم.
إنه وعيد رهيب قاصم، أشدُّ على سمع المؤمن من أي عقاب؛ إذ ليس بعد هذا الوعيد وعيد، وليس بعده جزاء، وذلك كله دليل واضح على حرمة دم المؤمن وحرص الإسلام على المحافظة على النفس المؤمنة وصيانتها من الاعتداء عليها وإزهاقها وسفكها بغير حق.
إن هذا أعظم وعيد يجب في أغلظ تحريم، حتى فهم ابن عباس -رضي الله عنهما- لأجل ما تضمنته هذه الآية من الوعيد؛ أن توبة القاتل غير مقبولة، ولما روى أبو داود عن أبي الدرداء –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركًا أو قتل مؤمنًا عمدًا". فقد سوَّى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين مَن مات مشركًا ومن أصاب دمًا حرامًا في عدم رجاء المغفرة لكل منهما، فدل ذلك على عظم جريمة من قتل مؤمنًا متعمدًا وعلى عدم قبول توبته.
لقد حذَّر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في أحاديث أخرى كثيرة من الاعتداء على نفس المؤمن بغير حق، وبين الوعيد الذي ينتظر القاتل، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق"(رواه البيهقي). قال ابن العربي -رحمه الله-: "قد ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- النهي عن قتل البهيمة بغير حق، وبَيَّنَ وعيد من ارتكب ذلك، فكيف بمن اعتدى على مؤمن تقيٍّ صالح فقتله؟!".
وَعدَّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذلك من الكبائر والموبقات، فقال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"(رواه البخاري ومسلم).
وبيَّن –صلى الله عليه وسلم- أن المؤمن يظلّ مطمئنًا منشرح الصدر في حياته مسرورًا، فإذا ارتكب هذه الجريمة وقتل نفسًا بغير حق صار منحصرًا ضيِّق الصدر، لا تسعه الدنيا بطولها وعرضها، فيرى أنها قد ضاقت به، وذلك لشدة العقوبة وعظيم الوعيد الذي توعده الله به، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا"(رواه البخاري).
وفي حديث آخر يوضِّح –صلى الله عليه وسلم- نفاسة دم المؤمن وحرمته عند خالقه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يطوف بالكعبة ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمتك"(رواه ابن ماجه).
بل ورد الوعيد لمن أعان على القتل المحرم أو كان حاضرًا يستطيع منعه أو الحيلولة دون وقوعه أو شجع القاتل على القتل، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمنٍ لكبَّهم الله عز وجل في النار"(رواه الترمذي).
هذه العقوبات العظيمة، والأهوال الشديدة أعدها الله -تعالى- لمن قتل مؤمنًا متعمدًا، فالنفس المؤمنة معصومة محفوظة، وحرمتها عند الله كبيرة، فالاعتداء عليها من الموبقات ومن أكبر الكبائر وأشد المنكرات.
اللهم احفظنا بحفظك، وأعذنا من نزغات الشيطان، واملأ قلوبنا بالإيمان، ولا تزغها بعد إذ هديتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.