الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
هذه أيام شهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تتقضَّى، تتقلص تتقضى شاهدة بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة، ومستودعات محفوظة، تدعون يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ)، ينادي ربكم: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فتقوى الله أكرم ما أسررتم، وأجمل ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، أعاننا الله على لزومها، وأوجب لنا ثوابها.
أيها المسلمون: هذه أيام شهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تتقضَّى، تتقلص تتقضى شاهدة بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة، ومستودعات محفوظة، تدعون يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ) [آل عمران:30]، ينادي ربكم: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
هذا هو شهركم، وهذه هي نهاياته، كم من مستقبِل له لم يستكمله!! وكم من مؤمِّل بعودٍ إليه لم يدركه!! هلا تأملتم الأجل ومسيره، وهلا تبينتم خداع الأمل وغروره.
أيها الإخوة: إن كان في النفوس زاجر، وإن كان في القلوب واعظ، فقد بقيت من أيامه بقيةٌ، بقية وأي بقية، إنها عَشْرُهُ الأخيرة، بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء، في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر، هجر فراشه، أيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي -رضي الله عنهما- قائلاً: "ألا تقومان فتصليان"، يطرق الباب وهو يتلو: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمرًا: "أيقظوا صواحب الحجر؛ فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة".
ألم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام لا يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه؟!
أيها المسلمون: اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، لا تضيعوا فرصة في غير قربة.
إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع، ولكن الخوف بترك ما يخاف منه العقوبة.
أيها الأحبة: قدموا لأنفسكم وجدوا وتضرعوا، تقول عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-: يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟! قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
نعم -أيها الإخوة- الدعاء الدعاء؛ عُجُّوا في عشركم هذه بالدعاء، فقد قال ربكم -عز شأنه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
أتعلمون من هم هؤلاء العباد؟! الخلائق كلهم عباد الله، ولكن هؤلاء عباد مخصوصون، إنهم عباد الدعاء، عباد الإجابة، إنهم السائلون المتضرعون، سائلون مع عظم رجاء، ومتضرعون في رغبة وإلحاح: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة: 18].
إن للدعاء -أيها الإخوة- شأنًا عجيبًا، وأثرًا عظيمًا في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأرزاق.
أرأيتم هذا الموفَّق الذي أدركه حظه من الدعاء ونال نصيبه من التضرع والالتجاء، يلجأ إلى الله في كل حالاته، ويفزع إليه في جميع حاجاته، يدعو ويُدعَى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفان، وأبناؤه البررة، والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحسن منه الخلق وزان منه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسن تدعو له وتحوطه، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق.
أين هذا من محروم مخذول لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه، محروم سدَّ على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.
أيها الإخوة: إن نزع حلاوة المناجاة من القلب أشد ألوان العقوبات والحرمان، ألم يستعذ النبي –صلى الله عليه وسلم- من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع؟!
إن أهل الدعاء الموفَّقين حين يعُجُّون إلى ربهم بالدعاء، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابًا واحدًا هو باب السماء، باب مفتوح لا يغلق أبدًا، فَتَحَهُ من لا يرد داعيًا ولا يخيب راجيًا، فهو غياث المستغيثين، وناصر المستنصرين، ومجيب الداعين.
أيها المجتهدون: يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة، العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود، وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه، فأين المتنافسون؟!
ألظوا بالدعاء –رحمكم الله–، سلوا ولا تعجزوا ولا تستبطئوا الإجابة؛ فيعقوب -عليه السلام- فقد ولده الأول ثم فقد الثاني في مدد متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقًا: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 83]، ونبي الله زكريا -عليه السلام- كبر سنه، واشتعل بالشيب رأسه، ولم يزل عظيم الرجاء في ربه، حتى قال محققًا: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا) [مريم: 4].
لا تستبطئ الإجابة -يا عبد الله-؛ فربك يحب تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقداره، رضا بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال نبيك محمد –صلى الله عليه وسلم-: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي".
أيها الإخوة: ويجمل الدعاء، وتتوافر أسباب الخير، ويعظم الرجاء، حين يقترن بالاعتكاف، فقد اعتكف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هذه الأيام حتى توفاه الله.
عجيب هذا الاعتكاف في أسراره ودروسه، فالمعتكف ذِكْرُ الله أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجاة الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته.
إذ أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم، ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم، لازم هذا المعتكف بيت ربه وحبس من أجله نفسه، ويقف عند أعتابه، يرجو رحمته ويخشى عذابه، لا يطلق لسانه في لغو، ولا يفتح عينه لفحش، ولا تتصنت أذنه لبذاءٍ، سلم من الغيبة والنميمة، جانب التنابز بالألقاب، والقدح في الأعراض، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، استغنى عن الناس وانقطع عن الأطماع، علم واستيقن أن رضا الناس غاية لا تدرك.
في درس الاعتكاف انصرف المتعبد إلى التفكير في زاد الرحيل وأسباب السلامة، السلامة من فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول المخالطة.
في مدرسة الاعتكاف يتبين للعابد أن الوقت أغلى من الذهب، فلا يبذله في غير حق، ولا يشتري به ما ليس يُحمد، يحفظه عن مجامع سيئة، بضاعتها أقوال لا خير في سماعها، ويتباعد به عن لقاء وجوه لا يسر لقاؤها.
أيها المسلمون: أوقاتكم فاضلة تشغل بالدعاء والاعتكاف، وتستغل فيها فرص الخير، وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلة القدر: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر:2]، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
ليلة خير من ألف شهر، خفي تعينها اختبارًا وابتلاءً، ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جد في طلبه، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه.
إنها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: 4]، ولا يهلك على الله إلا هالك.
فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعملوا وجددوا وأبشروا وأملوا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [سورة القدر].
الخطبة الثانية:
الحمد لله؛ عظم شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عمَّ امتنانه وجزل إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم بتقوى الله -عز وجل-؛ فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128].
أيها المسلمون: أيامكم هذه أعظم الأيام فضلاً وأكثرها أجرًا، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار؟! وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته؟!
المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتته فرص الشهر، وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرف عينه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة، ويحه ثم ويحه، أدرك الشهر ألم يحظ بمغفرة؟! ألم ينل رحمة؟! يا بؤسه، ألم تقل له عثرة؟!
ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته، قطع شهره في البطالة وكأنه لم يبق للصلاح عنده موضع، ولا لحب الخير في قلبه منزع، طال رقاده حين قام الناس، هذا والله غاية الإفلاس والإبلاس، عصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين، أمر بالصلاة فضيعها، ووجبت عليه الزكاة فانتقصها ومنعها، دعته دواعي الخير فأعرض عنها، مسؤولياته قصَّر فيها، وقصَّر فيمن تحت يديه من بنين وبنات، يفرط في مسؤولياته وقد علم أن من سنة نبيكم أنه يوقظ أهله، أما هذا فقد اشتغل بالملهيات، وقطع أوقاته في الجلبة في الأسواق والتعرض للفتن.
فاتقوا الله -رحمكم الله-، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا؛ فإن الشقي من حرم رحمة الله.