الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أهل السنة والجماعة |
لقد انتبه كبار الصحابة -رضوان الله عليهم- لهذه الآية انتباهاً عظيماً، وأثرت فيهم تأثيراً بليغاً، وعلموا من خلالها حقيقة التربية وأنها متعلقة بالدين والمنهج وليس بالأشخاص أنفسهم، ويدل على ذلك موقف أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يوم وفاة رسول الله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل كتابه مفصل الأحكام، ومحكم الآيات، أحمده -سبحانه- عمَّت نعماؤه وتوالت منه المنح والمكرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تقَّدس في الذات وفي الأسماء والصفات. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، ختمت بنبوته النبوات، وكملت برسالته الرسالات، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته أفضل الصلوات، وأتم التسليمات، وأزكى البركات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات.
أما بعد:
عباد الله: حديثنا اليوم عن موضوع مهم جداً، يخصنا جميعاً في تربيتنا لأبنائنا وطلابنا؛ لأن كثيراً من الآباء والمربين يغفلون عنه ولا يتفطنون له، إنه موضوع الارتباط بالمنهج في التربية لا بالأشخاص.
كثير من المربين والآباء والمعلمين يربطون أبناءهم وطلابهم بأنفسهم، ويعلقونهم بذواتهم، ويجعلونهم مرتبطين بأشخاصهم، وهذه طريقة خاطئة في التربية, وأسلوب يخالف المنهج القرآني والسلوك النبوي في التربية.
إن المنهج الصحيح في التربية هو أن نعلق المتربي بالله -سبحانه وتعالى-, ونربطه به ارتباطاً مباشراً، ونجعل تفكيره وأحاسيسه ترتبط بذات المنهج لا بذوات الأشخاص، وهذا هو ما أمر الله -سبحانه وتعالى- به فقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران :144].
إن هذه الآية الكريمة تربي الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- على أن يجعلوا ارتباطهم بالله -جل وعلا- وأن يجعلوا اعتمادهم في التلقي عنه، ولا يرتبطوا بشخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذاته، مع أنه رسول من الله يوحى إليه، إلا أنه بشر والبشر يتعرض لما يتعرض إليه البشر من الموت والقتل والأسر وغيره.
لقد انتبه كبار الصحابة -رضوان الله عليهم- لهذه الآية انتباهاً عظيماً، وأثرت فيهم تأثيراً بليغاً، وعلموا من خلالها حقيقة التربية، وأنها متعلقة بالدين والمنهج وليس بالأشخاص أنفسهم، ويدل على ذلك موقف أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-يوم وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قام -رضي الله عنه- "فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَلاَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌ لاَ يَمُوتُ. وَقَالَ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)[الزمر:30]، وَقَالَ (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[آلعمران:144]، قَالَ فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ"(رواه البخاري).
إن بعض المدراء والمشرفين -أصلحهم الله- يرون بعض المدرسين أو المربين يعلقون طلابهم بهم، فيتغاضون عنهم ويسكتون منهم لسبب أو لآخر, ولا يرشدونهم إلى قبح هذا الخطأ، ثم إذا بهم يعانون من مرارة هذا الأمر عند غياب هذا المدرس أو خروجه من العمل؛ لأن الطلاب لا ينضبطون إلا به ولا يسمعون إلا له.
ولو أنهم انتبهوا لذلك من البداية ونهوهم عن مثل هذا التعلق؛ لما عانوا بعد ذلك من النتائج المرة لمثل هذه التصرفات التربوية الخاطئة؛ ولهذا أنزل الله تلك الآية والنبي -صلى الله عليه وسلم- حي يعيش بين الصحابة حتى لا يتعلقوا به، وليجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة، ويكون عهدهم مع الله مباشرة، ومسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط.
أيها المسلمون: لقد قام نبينا -صلى الله عليه وسلم- بتطبيق هذا المنهج التربوي الرباني، فكان يعلق قلوب أصحابه بالله، ويربطهم به مباشرة، وهذا ما دلت عليه كثير من الأحداث النبوية والمواقف السنية.
في يوم من الأيام خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس خطبة عجيبة بليغة, أثرت في قلوبهم، ودمعت منها عيونهم، فقال الصحابة: يا رسول الله كأنها وصية مودع فأوصنا؟. فهل قال لهم: عليكم بالتعلق بي وتتبعي وكثرة النظر في؟ أبداً؛ إنما ربطهم بالمنهج الأصيل.
يقول الْعِرْبَاض بْن سَارِيَةَ -رضي الله عنه-: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَاعْهَدْ إِلَيْنَا بِعَهْدٍ، فَقَالَ: "عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلَافًا شَدِيدًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"(رواه ابن ماجه).
قال لهم: عليكم بسنتي، ولم يقل: عليكم بشخصي، أو بأبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي، وإنما ذكر لهم سنته وسنة خلفائه الكرام -رضوان الله عليهم-, وهذا يؤكد أن التعلق يجب أن يكون بالمنهج لا بذوات الأشخاص.
وفي حجة الوداع رأى الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- من نبيهم -صلى الله عليه وسلم- بعض الإشارات الوداعية والمواقف التوديعية, حتى أنه قال لهم بصريح العبارة: "يا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب"(رواه مسلم)، ثم حضهم على التمسك بكتاب الله وسنته.
والشاهد من ذلك هو تعريضه -صلى الله عليه وسلم- لصحابته بأنه مغادر من هذه الحياة الدنيا، وحضه لهم بالتمسك بكتاب الله وبمنهج الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, حتى يتعلقوا بهذين المنهجين الأصيلين، ولا يتعلقوا بشخص من الأشخاص مهما كان حجمه وثقله.
كم من الأعمال تجدها مستندة إلى شخص من الأشخاص هو متحمل لها دون غيره، وهو القائم بها كلها، وهو طرف الأمر وآخره، وبمجرد أن يموت هذا الشخص أو يغيب أو يتأخر ينتهي كل شيء، ويتوقف العمل، وربما يزول نهائياً، والسبب هو تعلقه بشخص واعتماده عليه.
فعلينا أن نربي أنفسنا وأهلنا وأبناءنا وطلابنا ومن حولنا أن لا يتعلقوا بشيء من الأشياء التي تفنى وتنتهي، وإنما الواجب هو تربيتهم على التعلق بالحي الدائم الذي لا يموت؛ فهو خير الناصرين، ونعم المولى ونعم الوكيل، وكتابه هو الباقي إلى يوم الدين.
(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الحج:78].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: إن للتعلق بالأشخاص في التربية آثار مدمرة ونتائج مرة، ومنها:
أن المتربي سرعان ما ينتهي بذهاب المربي أو موته، أو -والعياذ بالله- انحرافه، وربما يتبعه وينحرف مثله كما وقع للكثير من هؤلاء المتعلقين بالأفراد.
أو على الأقل تجد هذا المتعلق مقلدا لمن تعلق به، ومتتبعا له في كل شيء حتى في الخطأ والانحراف؛ لأن قلبه اعتجن به ووثق فيه، ورأى أن كل ما يصدر منه فهو صواب محض لا يحتمل الخطأ, ولا يمكن أبداً قبول النقاش فيه.
كما أن في التعلق مذمة واضحة عندما يرتبط المتربي بهذا الشخص ارتباطاً وثيقاً, ويكثر من القرب منه والتعلق به، مما يجعل الشيطان يستغل مثل هذه الأمور في خلق علاقة شيطانية بينهما، ربما تتطور مع مرور الزمن لتصبح نوعاً من العشق والغرام المتبادل.
والواقع يشهد بذلك، وكم وقعت من وراء هذا الأمر حكايات مؤلمة وقصص واقعية مشاهدة؛ بدأت وكأنها علاقة تربية، وانتهت بعلاقة شيطانية شهوانية، والسبب هو مرض التعلق، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور:21].
وربما ينصدم المتربي بأشياء يراها في من تعلق به، وفي النهاية يترك كل شيء، وينحرف مائة وثمانين درجة، وعندما يسأل عن ذلك يقول: لقد عاشرت هؤلاء فوجدتهم أسوأ الناس، ويحكم على الكل بسبب موقف فردي صدر من شخص، لكنه هو أخطأ أصلاً عندما تعلق به وجعله هو كل شيء، ولو أنه منذ البداية لم يتعلق به لميزّ الصواب من الخطأ، وحكم على الآخرين حكماً منصفاً.
فيجب علينا أن نربي أبناءنا وطلابنا على التعلق بالله، والثقة بأنفسهم، والتركيز على التربية الذاتية، ونبذ التعلق بالأشخاص مهما كانوا؛ لأنهم إلى فناء، ومنهج الله هو أدوم وأبقى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[المائدة:105].
نسأل الله أن يبارك في الجهود، ويسدد الخطا، ويوفق الجميع لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.