القوي
كلمة (قوي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - أهل السنة والجماعة |
يُشكل على بعض الناس ما مضى من الترهيب من اللعن والنهي عنه, وبين لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحاب المعاصي؛ كالواصلة والمستوصلة والواشمة, ونحو ذلك, ويجيب عن ذلك الإمام الذهبي -رحمه الله- بقوله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله معزّ من أطاعه واتقاه، ومذلّ من خالف أمره وعصاه، قاهر الجبابرة وكاسر الأكاسرة، ينصر من نصره, ويغضب لغضبه, ويرضى لرضاه، أحمده -سبحانه- وأشكره حمدًا وشكرًا يملآن أرضه وسماه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ولكل من نصره ووالاه.
أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: لفظٌ تساهلَ به فئام من الناس واستساغوه, وجرى على ألسنتهم مجرى السلام والكلام, نهى الله عنه على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-, ومع ذلك لا يكترث الكثير لهذا النهي العظيم, والوعيد الكبير, عَدَّه أهل العلم من كبائر الذنوب, و البعض يحسبه هينًا, (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15]؛ إنه اللعن.
اللعن: هو الطرد عن رحمة الله -تعالى-؛ فالملعون مطرود عن رحمة الله, وإذا لعن إنسان أخاه فإنه يدعو عليه بالطرد من رحمة الله؛ فإنْ كان الملعون أهلاً للطرد وإلا عادت دعوته ولعنته عليه, والعياذ بالله!, روى أبو داوود وحسنه الألباني من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ, فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لَعَنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا".
قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "اعلم أن لعنة المسلمِ المَصُونِ حرامٌ بإجماع المسلمين". ليس اللعن من خصال أهل الإيمان, ولا من علاماتهم, روى الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ".
اللعانون محرومون في الآخرة من الشفاعة لغيرهم, روى الإمام مسلم في صحيحه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن اللعانين لا يكونون يوم القيامة شفعاء ولا شهداء".
لقد شبه نبيُنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لعن المسلم بمنكر عظيم, وعيدُه عظيم, وعاقبتُه جسيمة, روى أحمد وصححه الألباني من حديث ثابت بن الضحاك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن المؤمن كقتله", ومن المعلوم أن القتل أمر مستبشع عند الناس؛ لأنه قطع لعلاقة الإنسان بالدنيا؛ فكذلك اللعن فيه دعاء لقطع علاقة أخيك المسلم بالجنة.
أيها الإخوة: كلنا يتمنى أن يكون من الصديقين, لكن يجبُ أن نعلم أن اللعن ليس من صفات الصديقين, روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا".
بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ترجم ذلك عمليًا في حياته؛ فلم يكن ليعرض لسانه للعن والسباب, قال أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لم يكن فاحشًا ولا لعانًا ولا سبابًا".
عباد الله: يشتكي بعض الناس أن لسانه قد تعود السباب والشتم واللعن, وأنه لا يستطيع ترك السباب واللعن, ولمثل هؤلاء يقال: لما بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته إلى دين الله, ودخل الصحابة في دين الله أفواجًا, كان كل واحد منهم قد تعود على أمر من الأمور في الجاهلية, فلما سمعوا الحق آمنوا به وانتهوا عمَّا سواه, لما نزل تحريم الخمر, وقال الله -تعالى-: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)[المائدة: 91]؟ صاح الصحابة: "انتهينا, انتهينا", وسالت الخمرة في سكك المدينة كالأنهار, مع أن شارب الخمر يُصنف من المدمنين المحتاجين للعلاج إذا أرادوا الإقلاع, لكن لما خالط الإيمان بشاشة القلوب, وامتزج امتثال أمر الله داخل شرايينهم, وسمعوا قول الله -تعالى-: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟؛لم يكن من الامتثال بد, ولم يكن للتردد مكان.
كيف! والله -تعالى- يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب:36], عوِّد لسانك دائمًا على الكلام الطيب, واللفظ الحسن, انتق العبارات الجميلة, والألفاظ اللطيفة.
ذكر الله -تعالى- في كتابه أهل الجنة وصفهم بقوله: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)[الحج: 24]؛ فكن ممن هدي إلى الطيب من القول, ودع عنك رديء الألفاظ.
إذا أردت أمرًا فإنَّ هناك أكثر من عبارة تستطيع بها إيصال مرادك؛ فاختر أجملها وأرشقها وألطفها واقتدِ بأولئك, أصحاب الجنة, الذين هدوا إلى الطيب من القول.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ رَبُّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَقَيَّومُ السَّمَاوَات وَالأَرَضِين، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ, وَأَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
أَمَّا بَعْدُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: مع خطورة اللعن إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد لعن أصحاب بعض الأوصاف, روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ: "لَعَنَ اللهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة"؛ فالواصلة: هي التي تصل شعرها, والمستوصلة: هي التي يوصل لها, والنامصة: هي التي تنتف الشعر من الحاجبين, والمتنمصة: التي يُفعل بها ذلك.
وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لعن الله من لعن والديه, و لعن الله من سب أمه". ولعن رجلاً سمع: "حي على الصلاة, حي على الفلاح" ثم لم يجب, ولعن من ذبح لغير الله, ولعن السارق, ولعن من سب الصحابة, ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء, والمتشبهات من النساء بالرجال, ولعن المرأة تلبس لبسة الرجل, والرجل يلبس لبسة المرأة, ولعن من أشار إلى أخيه بحديدة, ولعن مانع الصدقة يعني الزكاة, ولعن المرأة إذا خرجت من دارها بغير إذن زوجها, ولعنها إذا باتت هاجرة فراش زوجها حتى ترجع؛ فلعنه -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء وغيرهم, يدل على خطورة فعلهم, وعظم جرمهم, أجارنا الله وإياكم من مثل حالهم.
أيها المسلمون: يُشكل على بعض الناس ما مضى من الترهيب من اللعن والنهي عنه, وبين لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحاب المعاصي كالواصلة والمستوصلة والواشمة, ونحو ذلك, ويجيب عن ذلك الإمام الذهبي -رحمه الله- بقوله: "يجوز لعن أصحاب الأوصاف المذمومة كقولك: لعن الله الظالمين, لعن الله الكافرين, لعن الله الفاسقين, لعن الله المصورين, ونحو ذلك".
وأشار حجة الإسلام الغزالي -رحمه الله- إلى تحريم لعن شخص بعينه ممن اتصف بهذه الصفات؛ إلا في حق من عَلِمْنا أنه مات على الكفر كأبي لهب وأبي جهل وفرعون وهامان وأشباههم, قال: لأن اللعن هو الإبعاد عن رحمة الله, وما ندري ما يختم به لهذا الفاسق والكافر.
فخلاصة ذلك أنه يفرق بين لعن المُعَيَّن فلا يُلعن إلا من مات كافرًا, وَبَيْنَ لعنِ أصحابِ الوصف المذموم.
بقيت الإشارة إلى أمر مهم, وهو ما يتعلق بلعن الشيطان, روى أبو داوود وغيره وصححه الألباني عن أبي المليح عن رجل قال: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- فعثرت دابته, فقلت: تعس الشيطان, فقال: "لا تقل تعس الشيطان؛ فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت, ويقول: بقوتي, ولكن قل: بسم الله؛ فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تسبوا الشيطان, وتعوذوا بالله من شره".
فعلى ذلك فمن أصابه أمرُ سوءٍ فَلَعَنَ الشيطانَ فإنه يُنهى عن ذلك؛ لأنه يتعاظم ويكبر ويفخر؛ لأنه يرى أنه أغاظ المسلم وآذاه, أما لعنُ الشيطان عند ذكره فلا شيء فيه؛ لأنه ملعونٌ أصلاً, قال -تعالى-: (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ)[النساء: 117-118], مع التنبيه إلى أنَّ الإنسان لم يؤمر بلعن الشيطان في آية ولا حديث, ولكن إنما أُمرنا بالاستعاذة منه, قال -تعالى-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأعراف: 200].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-, وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام؛ فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.