الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ومن الكبائر الموبقة، والذنوب العظيمة المهلكة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء: 93]...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: لا أضر على القلوب من داء الذنوب والمعاصي؛ حيث أنها تفسدها وتعميها قال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14]؛ أي: غطاها وحجبها عن قبول الحق, ما كانوا يكسبون من الذنوب, ويقترفون من الآثام.
والمراد بالمعصية والعِصيان: مخالفة مراد الله ورسوله؛ إما بترك ما أمرا به أو فعل ما نهيا عنه؛ لأنه اختار بذلك لنفْسه غير ما اختار الله ورسوله له شرعًا، وفي هذا ضلال مُبين, وتيه عظيم؛ قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب: 36].
أيها المسلمون: وإن المتأمل في نصوص الكتاب والسنة والصحيح من أقوال الأئمة يجد أن الذنوب تتفاوت وتنقسم إلى صغائر وكبائر؛ فأما الكبائر فهي كل ذنب ختمه الله تعالى بنار, أو غضب, أو لعنة, أو عذاب. قال ابن الصلاح -رحمه الله-: "لها -أي الكبائر- أمارات منها: إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا ومنها اللعن".
قال تعالى: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا)[النساء: 31]، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعليقًا على هذه الآية-: "لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر وعد على اجتنابها وحث على التخفيف من الصغائر، دل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر, وعلى هذا جمهور أهل العلم".
ورى الشيخان عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكبائر، أو سئل عن الكبائر فقال: "الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور، أو قال: شهادة الزور"
وأما الصغائر: فهي ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة. قال ابن النجار -رحمه الله -: "والصغائر هي كل قول أو فعل محرم لا حد فيه في الدنيا ولا وعيد في الآخرة" قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)[النجم: 32]، والمراد باللمم صغائر الذنوب وهي دون الكبائر، يقول ابن القيم -رحمه الله -: "والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف وبالاعتبار".
عباد الله: حذر النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- من الوقوع في المعاصي عامة، وحذر من كبائر الذنوب خصوصًا؛ ففي الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" قلنا: بلى يا رسول الله. فقال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور" وفي الصحيح أيضًا عنه -صلى الله عليه وسلم-: "اجتنبوا السبع الموبقات". قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله ألا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
ولما كان الشرك أكبر الكبائر؛ لأنه ينخر في التوحيد ويفسد الغاية التي خلق الله السماوات والأرض وما فيهما لأجل إقامتها؛ حرم الله الشرك وعده الوقوع في وقوع في الظلم الكبير؛ كما قال تعالى على لسان لقمان: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان:13]، بل إن الله -تعالى- حرم الجنة على أهل الشرك، وأباح دماءهم، وأمولهم؛ لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيدًا لهم لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله -سبحانه- أن يقبل من مشرك عملًا، ويقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة أو يقبل له فيها رجاء.
والسحر جعله الشارع الكريم قرينا للشرك، تابعا له في المرتبة؛ وذلك لما يحدثه من أضرار ومفاسد جسام؛ كما قال تعالى: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)[البقرة:102]؛ فهو عمل شيطاني مفسدٌ للعقيدة، ومفسدٌ للمجتمع، محدث للقطيعة التباغض والتدابر بين المتحابين، قال تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)[البقرة:102].
ومن الذنوب الكبيرة والمعاصي الخطيرة بعد الشرك بالله في كبر المفسدة القول على الله بلا علم في دينه وشرعه وأسمائه وصفاته، (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ)[الأنعام: 100]، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)[لقمان:20].
ومن الكبائر الجسام والذنوب العظام: قتل النفوس المؤمنة بغير حق؛ فقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء:93]، وقال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[المائدة:32].
وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تقتل نفس ظلما بغير حق إلا كان على ابن آدم الاول كفل من دمها؛ لأنه أول من سنّ القتل".
ومن الكبائر: الوقوع في جريمة الزنا؛ ولا شك أنها من الآفات الخطيرة والذنوب الكبيرة؛ لما يترتب عليها من فساد نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات من العلل الكبيرة التي لم تعرف في الأسلاف، قال تعالى:(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)[الإسراء: 32].
قال الإمام ابن القيم: "ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها، وزوجها، وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنا؛ فإما أن تقتل ولدها فتجمع بين الزنا والقتل، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبيا ليس منهم، وأما زنى الرجل فإنه يوجد اختلاط الأنساب، وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد".
عباد الله: ومن الكبائر: تضييع الصلاة والوقوع في ناقض من نواقض الملة والديانة، قال تعالى عن أصحاب النار: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)[المدثر: 42-43]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"(رواه الإمام أحمد).
قال الإمام ابن القيم: "لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه أعظم عند الله من إثم قتل النفس وأخذ الأموال".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا)[الفرقان: 68-70].
أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
عباد الله: فإن مما يجب على العبد أن يحذر الذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها وأن يفر منها من محقرات المعاصي، التي ما إن تجتمع على الرجل إلا وتهلكه، وقد حذر منها نبينا صلى الله عليهم وسلم فقال: "إياكم ومُحَقّرات الذنوب، فإنما مثل محقّرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود وذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقّرات الذنوب متى يُؤخذ بها صاحبها تهلكه".
وكان الفضيل بن عياض حين يقرأ قوله -تعالى-: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49]، يقول: "يا ويلتاه، ضجوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر"، وقال قتادة: "إياكم ومحقّرات الذنوب؛ فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه"، يريد أن ينبّه على الذنوب الصغيرة؛ لأن الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.
أيها المؤمنون: توبوا إلى الله وأنيبوا إليه قبل غلق هذا الباب، قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[النساء: 17-18].
عباد الله: أطيعوا الله ربكم ولا تعصوه، وفروا من عذابه واحذروه.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ حيث أمركم الله؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].