الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | عبدالله بن محمد حفني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والله إن للعمر أيامًا، وإن للحياة نهاية، ولا ندري والله متى ينقضي العمر، ومتى تبلغ الحياة نهايتها؟.. الجميع يعلم أن ذلك لن يطول؛ فالموت قادم، الموت قادم أيها الشباب، الموت قادم أيها الشيب قادم للأغنياء والفقراء، قادم للظالمين والمظلومين، قادم...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نحمده ونَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونستهديه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شرك له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونبينا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[المؤمنون: ١٢-١٤]؛ ثم ماذا؟ ماذا بعد هذه الأطوار من الخلق؟ ماذا بعد التراب، والنطفة، والعلقة، والمضغة، والعظام، واللحم؟ ماذا بعد الخلق، والإيجاد، والطفولة، والشباب، والكهولة، والشيخوخة؟
انتقل الخطاب القرآني مباشرةً، وطوى الحديث عن مراحل الخلق وعن الحياة كلها، وكأنها لم تكن شيئًا مذكورًا؛ فقال -سبحانه-: (ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ)[المؤمنون: ١٥]، مشهد عظيم مؤكد بإن وباللام (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)[المؤمنون: ١٥].
الله أكبر.. الله يحدثنا عن أطوار الخلق والإيجاد وفي غمضة عينٍ، ولمحة بصرٍ ينتقل الحديث عن الموت ونهاية الحياة.
هكذا بلا مقدمات ذهبت الحياة الدنيا وشهواتها ومتاعها (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)[المؤمنون: ١٥]؛ (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)[المؤمنون: ١٥]؛ والله -يا قوم- إننا بين يدي آية تهز القلوب هزّاً، ربَّاه أي ساعة أعظم من هذه الساعة؟ إنني أذكر نفسي وإخواني بآية الموت العجيبة، وأجد في نفسي رهبةً وخوفاً.
لقد وقفت على هذا المنبر أكثر من عشرين عاماً، فلم أجد حديثاً تخشاه الناس وتنقاد إليه كالحديث عن الموت؛ فالجميع يستسلم للموت، كلنا في لحظة الموت ترتخي أعضاؤنا، وتشخص أبصارنا، وطويت حياتنا، وانتهى كل شيء؛ فلا يذكر العبد عندها إلا ما قدمت يداه.
يا كرام: إن هيبةَ الموت عظيمة، ومصابَ الموت أليم؛ فالعظماء والأمراء والملوك والأطباء والأقوياء والضعفاء لا يخشون أمراً أعظم من الموت؛ فكلهم يستسلمون للموت.
وهذهِ الدارُ لا تُبْقي على أحدٍ | ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ |
أينَ المُلوكُ ذوو التيجانِ من يَمنٍ | وأينَ مِنْهُمْ أكَالِيلٌ وتِيجانُ |
وأينَ ما شَادَهُ شَدَّادُ في إرمٍ | وأين ما سَاسَه في الفرس ساسانُ |
وأينَ ما حازَهُ قَارُونُ من ذَهَبٍ | وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ |
أتى على الكلِّ أمرٌ لا مَرَدَّ له | حتى قضوا فكأنَّ القومَ ما كانوا |
يا كرام: بالله عليكم، كم خلق الله من الخلق؟! كم أوجد من البشر على هذه البسيطة؟! كم عرفنا من العظماء والرؤساء؟! كم من الشيب والشباب كانوا معنا في مثل هذه الجمعة؟! والله كأني أنظر إليهم، وإن شئتم سمّيناهم. أين ذهبوا؟! كيف ذهبوا؟! في لمحة بصر، وغمضة عين، زالوا عن دار الزوال والفناء.
تَنامُ وَلَمْ تَنَمْ عَنْكَ المَنايا | تنبّه للمنية يا نؤوم |
لهوت عن الفناء وأنت تفني | فما شيء من الدنيا يدومُ |
تموت غداً وأنت قرير عين | مِنَ العَضَلاتِ في لُجَجٍ تَعُومُ |
جاء جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال في موعظة بليغة عظيمة "يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ"(صحيح الترغيب والترهيب).
والله إن للعمر أيامًا، وإن للحياة نهاية، ولا ندري -والله- متى ينقضي العمر، ومتى تبلغ الحياة نهايتها؟ (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)[لقمان:٣٤].
لكن الجميع يعلم أن ذلك لن يطول؛ فالموت قادم، الموت قادم أيها الشباب، الموت قادم أيها الشيب قادم للأغنياء والفقراء، قادم للظالمين والمظلومين، قادم للأقوياء والضعفاء والرؤساء، وأيم الله ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يبلى؛ (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)[الشعراء: ٢٠٥ – ٢٠٧].
أقول قولي هذا، واستغفروا الله العظيم.
الخطبة الثانية:
أكثروا من ذِكْر هادم اللذات؛ بهذا أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال في كلمات جمعت التذكرة والذكرى: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادمِ اللَّذَّاتِ"(أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني).
قال الغزالي -رحمه الله-: "نغِّصوا بذكره اللذات حتى ينقطع ركونكم إليها، فتُقبلوا على اللَّهُ -تَعَالَى-".
من ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه، وبكى على ذنبه، وأناب إلى ربه. من ذكر الموت حق ذكره أقام الصلاة وآتى الزكاة وأدّى ما فرض الله وتجنّب ما حرّم الله. من ذكر الموت حق ذكره أفشى السلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام. من ذكر الموت حق ذكره استعد للرحيل، واغتنم الصحة، والشباب قبل الحسرة والسكرات.
(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِنْ لَّا تُبْصِرُونَ)[الواقعة: ٨٣ –٨٥]؛ لما احتضر هارون الرشيد أَلْصَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ وَجَعَلَ يَقُوْلُ: "يَا مَنْ لاَ يَزُولُ مُلْكُهُ! ارْحَمْ مَنْ قَدْ زَالَ مُلْكُهُ".
ما أصعبها من كلمات يقولها محتضر يودع عالمًا ويدنو من عالم آخر؛ وما أشدها من ساعات يصارع فيها المرء الموت، ويكابد الشدة والألم، كلماتٍ وآهاتٍ بل حسرات وصرخات تخرج من القلب؛ هذه نهاية الحياة، هذه نهاية الدنيا التي نتهافت عليها.
هذه هي الحقيقة التي نسيناها بل تناسيناها. لقد كان معنا أقوام يسمعون عن الموت، ويدخلون المقابر معنا، ويخرجون معنا، ولا يظنون أن الأجل قريب؛ فما لبثوا أن جاءهم الموت فبدا لهم مالم يكونوا يحتسبون.
يقول سعيد بن جبير -رحمه الله-: "لَوْ فَارَقَ ذِكْرُ الْمَوْتِ قَلْبِي خَشِيتُ أَنْ يَفْسَدَ عَلَيَّ قَلْبِي".
ويقول قَبِيْصَةُ -رحمه الله-: "مَا جَلَسْتُ مَعَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ مَجْلِسًا إِلَّا ذَكَرَ فِيهِ الْمَوْتَ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَكْثَرَ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ مِنْهُ".
فأين نحن من هذه المعاني؟! أين نحن من هذه النماذج؟! أين الخائف من الله؟! أين الذي يخشى ويتذكر تلك الساعة؟! أين الذي يبكي على ما مضى من عمره وحياته؟! أين من يحاسب نفسه قبل حسرته ومماته؟!
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "يجب على مَن لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًّا، ولا يغتر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان، ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا.
يُعَمَّرُ وَاحِدٌ فَيَغُرُّ قَوْمًا | وَيُنْسَي مَنْ يَمُوْتُ مِنَ الشَّبَاب |
وصلوا وسلموا..