الباسط
كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
الخطأ من طبيعة البشر فطرةً، ولكن كيف نعالج هذه الأخطاء الطارئة؟ إن العبد الناجح هو الذي يسعى جاهدا أن تسير حياته على ضوء السنة النبوية، فكل تصرفاته يستقيها من تلك المشكاة؛ حتى في تربية نفسه وأولاده، بل في جميع...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده...
أما بعد: فأيها المؤمنون: إن من طبيعة البشر الوقوع في الخطأ أيا كان نوعه، سواء كان في حق الله أو في حقوق الغير؛ كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم"، وكما في الحديث الصحيحِ معنى الضعيفِ سندا: "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
فالخطأ من طبيعة البشر فطرةً، ولكن كيف نعالج هذه الأخطاء الطارئة؟
إن العبد الناجح هو الذي يسعى جاهدا أن تسير حياته على ضوء السنة النبوية، فكل تصرفاته يستقيها من تلك المشكاة، حتى في تربية نفسه وأولاده، بل في جميع شؤون حياته.
ولقد وسعت السيرة النبوية كل ذلك بأسهل علاج وأوضح صورة، وما بقي على العبد إلا أن يطبق، وينقاد لذلك، ولهذا أنزل الله في كتابه آية عظيمة لتكون للمسلم بمثابة القاعدة التي لا تتغير ولا تتبدل: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
معاشر المسلمين: إن الناظر بعين البصيرة لسيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وكيفية علاجه لتلك المشاكل والعوارض الدنيوية ليستقي منها العلاج النبوي الذي يستمر معه طول حياته، ويسلم من تلك الهموم التي تنقض عليه عند حدوث تلك العوارض.
ولنضرب لذلك مثلا فلو دخل رجل عاقل ولطخ هذا الجامع بالقاذورات فما أنتم فاعلون.
لا شك ستتغير التصرفات من شخص لآخر، ولكن لننتقل إلى حياة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وكيف يعالج ذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"، وفي رواية: "فلما فرغ من بوله دعاه، وقال له: "إن المساجد لم تبن لهذا إنما هي للصلاة وقراءة القرآن".
ولننظر لهذه التربية العظيمة التي اشتملت على مصالح عظيمة، فهذا الأعرابي لو وقع فيه الصحابة لحصل في هذه الطريقة عدة مفاسد من أعظمها: انتشار النجاسة بدلا عن كونها في مكان واحد.
والثانية تنفير هذا الأعرابي من الدين، وغيرها كثير، فلما رأى ذلك الأعرابي الموقف لم يملك أن قال: "اللهم اغفر لي ولمحمدا ولا تغفر لأحد معنا أبدا".
ولو استقرأت ما يحصل في مساجد المسلمين بين بعض أفراده من المهازل لأسباب دنية تافهة لعلمت بُعدَ كثيرٍ من الناس عن الواقع النبوي.
ومن الأمثلة كذلك: ذلك المتحدث جهلا في الصلاة؛ كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما انتهرني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
فلنتدبر في هذا الخلق هل يوجد بيننا في مساجدنا ؟
بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقع الخطأ عليه نفسه، فلا يخرجه ذلك عن التصرف السوي السليم المحاط بالحكمة، فقلي بربك لو اعتدى عليك من لا تعرف طالبا منك ما ليس له بحق فارضا ذلك عليك فرضا، متلفظا عليك بقبيح القول، فما هو تصرفك تجاهه، مع العلم أنك تستطيع قتله فضلا عن معاقبته؟
ولكن الأمر إذا وقع على خير خلق الله فلا تنتظر إلا التصرف الحكيم المحاط بالحلم، أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبه شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك؟ فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء"، وفي رواية: "فإنه ليس بمال أمك ولا أبيك".
عباد الله: لا تعجبوا من هذا الخلق العالي الرفيع، فهو صفوة الله من خلقه، ولهذا جعله الله أسوة حسنة للناس، وقال في حقه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4]، ولهذا لم ينتقم لنفسه أبدا كما قالته عائشة -رضي الله عنها-.
فها هو يتعرض للقتل ثم يعفو عن قاتله عله أن يسلم؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أخبر أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد، فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت سمرة، وعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: "إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله" ثلاثا، ولم يعاقبه وجلس.
خصلة العفو مع المقدرة خصلة عظيمة، وهي صفة بارزة في شخصية المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم ارزقنا اتباع سنة نبيك في جميع أمورنا يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد: فيا أيها الناس: لا ينقضي عجب المسلم من تلك السيرة العطرة التي من استضاء بها قادته إلى بر الأمان.
معاشر المؤمنين: لعل البعض إذا سمع تلك المواقف قال أو حتى انقدح في الذهن أن هذا من قبيل ضعف الشخصية؟
فأقول: الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.
والحكمة مطلوبة في الأفعال فكيف لو كانت في القضاء بين الناس ولعلنا نعرض لبعض تلك المواقف التي تغير أسلوب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإنكار، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى أو سمع ما يكرهه الله غضب لذلك، وقال فيه ولم يسكت.
وقد دخل بيت عائشة -رضي الله عنها- فرأى سترا فيه تصاوير فتلون وجهه وهتكه، وقال: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور".
ولما شكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته؛ حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه غضب، واشتد غضبه، ووعظ الناس، وأمر بالتخفيف.
ولما رأى النخامة في قبلة المسجد تغيظ وحكها، وقال: "إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة".
ولما شفع أسامة بن زيد في درء الحد عن المرأة المخزومية قام قومته المشهورة؛ كما أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمه أسامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتشفع في حد من حدود الله؟" ثم قام فاختطب، ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده"، فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
أيها المؤمنون: إن هذه السيرة لم تكن من النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع الناس فقط، بل كانت ديدنه حتى مع أهله، فأين الذين يعايشون الناس بأخلاق فاضلة ومعاملة حسنة؟ وإذا جاؤوا إلى أهلهم اختلفت طباعهم وتصرفاتهم؟ أخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام فضربت التي النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: "غارت أمكم" ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت".
هكذا تم علاج الخطأ بلا غضب ولا تهور، فليت شعري لو كنت في هذا الموقف ما أنت فاعل؟
وها هو أنس بن مالك يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، وكان يقول كما أخرجه البيهقي في سننه وأصله في مسلم: "خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء مما يصنعه الخادم لم فعلت كذا وكذا، أو هلا فعلت كذا وكذا"، وفي رواية: "وإذا تركت شيئا فعاتبني بعض أهله قال: دعوه فلو قُدّر كان".
أيها المؤمنون: إن السيرة النبوية العطرة مليئة بذلك والحاجة منا ملحة في تدارس سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وتطبيق ذلك واقعيا في حياتنا، فما أسعدها من لحظة عندما ترتسم السنة النبوية عمليا في حياتنا!
اللهم ارزقنا اتباع سنة نبيك والعمل بها حتى الممات.
اللهم وفقنا لهداك...
اللهم أصلح بيوت المسلمين وطهرها من المعاصي والسيئات...
اللهم أنج المستضعفين...