القريب
كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه |
لكم أن تتخيلوا وأهل الجنة في الجنة يتنعمون، وفي الأرائك متكئون، وبين الأنهار والأشجار يستمتعون، فينظرون إلى أهل النَّار وهم فيها يتقلبون! ومن زقومها يأكلون! ومن حميمها يشربون! وفي سلاسلها وأغلالها مُوثَّقون! لكم أن تتخيلوا هذا المشهد الرهيب وأصحاب الجنة ينادون على أصحاب النار!
الخطبة لأولى:
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنَّ في يوم القيامة تدور حواراتٌ عجيبة ونقاشاتٌ غريبة بين أهل الجنة وأهل النَّار، وقد ذكر الله -تعالى- ذلك في القرآن في مواضع كثيرة، ومن أهمها وأعظمها: ما ذكره الله -جل وعلا- في سورة الأعراف، قال الله -جل جلاله-: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ)[الأعراف: 44].
لكم أن تتخيلوا -عباد الله- وأهل الجنة في الجنة يتنعمون! وفي الأرائك متكئون! وبين الأنهار والأشجار يستمتعون! فينظرون إلى أهل النَّار وهم فيها يتقلبون! ومن زقومها يأكلون! ومن حميمها يشربون! وفي سلاسلها وأغلالها مُوثَّقون!
لكم أن تتخيلوا هذا المشهد الرهيب وأصحاب الجنة ينادون على أصحاب النار! أحدهم حكى الله قصته، فقال: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)[الصافات: 55] أحد أهل الجنة اطلع من زاويةٍ في الجنة فرأى أهل النَّار ورأى صاحبه، ذاك المجرم الذي كان يضايقه أو يعذبه، كان في الدنيا سيدًا له، كان متولٍ عليه: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)[الصافات: 55] أي في وسط الجحيم، فناداه وخاطبه: (تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ)[الصافات: 56] أي قاربت أن تُرْديني معك: (تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)[الصافات: 56-57] لولا فضل الله عليَّ لكنت معك الآن في النار، ثم يخاطبه ويسأله سؤال استنكار: (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)[الصافات: 58-59].
وهكذا -يا عباد الله- تدور حواراتٌ عجيبة، ومن أعظمها: ما حكاه الله -جل وعلا- في هذه السورة: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّار)[الأعراف: 44] نادى الفقراء الذين كانوا في الدنيا فقراء، نادوا أهل الغنى في الدنيا: يا فلان، كنت قبل ذلك رئيسًا لي، كنت تاجرًا وتمنعني الخير، كنت متوليًا لتلك المناصب وقد منعتني حقي وظلمتني، كنت قريبًا لي وتسلطت عليَّ؟
(أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) هكذا يأتي النداء، ينادي أهل الجنة أهل النار: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) وجدنا النعيم، وجدنا الحضور، وجدنا الحور الحِسان، وجدنا الأنهار التي تجري.
(فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) هم يرونهم، يرونهم في النار ولكن يُحبون أن يُستنطقوا.
(قَالُوا نَعَمْ) أي قال أصحاب الجنة بصوتٍ واحد: نعم، وجدنا؛ ألا ترون إلى عذابنا؟! ألا ترون إلى حالنا؟!
(قَالُوا نَعَمْ)، فيسمعون نداءً عجيبًا مُدويًا.
(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) بصوتٍ عجيبٍ غريبٍ مرتفع (أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[الأعراف: 44] لعنة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم في الدنيا فتركوا الخيرات، وتسابقوا إلى المنكرات، وظلموا غيرهم بالكذب وأكل الأموال.
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ)[الأعراف: 45] هؤلاء الظالمون كانوا في الدنيا يصدون عن الخير؛ إذا سمعوا بمشروعٍ خيري سعوا في منعه، وإذا علموا أن هناك عالمًا أو داعيًا للخير ينفع الناس سعوا في حرمانه.
ثم قال الله -جل وعلا-: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ) أي بين أهل الجنة وأهل النَّار حجاب؛ كما قال الله -جل وعلا-: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ)[الحديد: 13]، (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ) أي: حاجزٌ منيع.
(وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ) أهل الأعراف: قومٌ استوت حسناتهم مع سيئاتهم؛ كانوا في الدنيا يُصلُّون لكن يمنعون الزكاة، كانوا في الدنيا يصومون لكن يغتابون ويسبُّون، كانوا في الدنيا يحجون لكن يمنعون الخيرات ويمنعون النفقات على أهلهم وأصحابهم، كانوا يُجاهدون لكن يعقون والديهم، وهكذا يعملون الصالحات ولكن مع ذلك يعملون السيئات.
والأعراف: هو الجبل المرتفع.
(وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ) هؤلاء يعرفون أهل الجنة بسيماهم، ويعرفون أهل النَّار بسيماهم وعلاماتهم.
(وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) بدأوا بأهل الجنة، يا أهل الجنة، يا فلان، كنت قريبًا لي، كنت صاحبي، ونادوا أهل الجنة: (أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ)، وهنا ينتهي كلامهم، فيقول الله -جل وعلا-: (لَمْ يَدْخُلُوهَا) أي أنَّ أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد، ولكن (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) يطمعون ويرجون من الله -جل وعلا- أن يدخلوها.
قال العلماء: "وفي هذا إشارة إلى أنَّ الله الكريم الرحيم لم يذكر أنهم طمِعوا في دخول الجنة إلا أنه سبحانه وتعالى سوف يحقق طمعهم ورجاءهم، وسوف يُدخلهم الجنة بإذنه جل وعلا".
ثم قال الله -جل وعلا-: (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ) تأملوا لم يقل جل وعلا: وإذا صرفوا أبصارهم، هم لا يريدون أن ينظروا إلى أهل الناس يُعذَّبون، فلذلك يُلزمون بأن يُصْرفوا إلى النَّار (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأعراف: 47] ربنا نسألك أن لا يؤول حالنا إلى أن نكون معهم.
ثم نادى أصحاب الأعراف: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) من أهل النَّار (قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)[الأعراف: 48] يا فلان! يا هامان! يا فرعون! يا قارون! أيها الظلمة! (مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) في الدنيا كانت لكم جُموع وقوة وأموال ومناصب، أين هي؟! لم تُغنِ عنكم شيئًا، (مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) ماذا استفدتم من الأموال التي أمضيتم أوقاتكم لأجلها، التي حاربتم المسلمين وحاربتم أهل الخير ومنعتم الخير لأجل تلك الأموال وجمع الرجال؟! نراكم الآن أذلاء؟! أين جبروتكم؟! أين تكبُّركم؟!
(أَهَؤُلَاءِ) أي أهل الجنة (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ) كنتم تستهزئون بأهل الخير وتستنقصون قدرهم، وتحلفون أنَّ الله لن يُدخلهم الجنة، هؤلاء قيل لهم: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).
وهكذا -إخوة الإيمان- ذَكَر الله -جل وعلا- ذاك الحوار العجيب الذي دار بين أهل الجنة وأهل النَّار، وبين أصحاب الأعراف وأصحاب الجنة وأصحاب النار، وهي رسالةٌ لنا: أن نتقي الله -جل وعلا-، وأن لا نُقدِّم الدنيا على الآخرة، وأن لا نغتر بمناصبنا ولا بأموالنا؛ فهي ستزول.
نسأل الله -جل وعلا- أن يرحمنا برحمته.
اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار وأدخلنا الجنة مع الأبرار، يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد:
إخوة الإيمان: ويستمر الحوار ولكن لهذه المرة يُبادر أهل النار أهل الجنة بالحوار، قال الله -جل وعلا-: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) نادى أصحاب النَّار "أهل الكِبر في الدنيا، أهل الضلال، أهل الأموال الذين سعوا في تحصيلها ولم يسعوا في تحصيل الأجور والدرجات العلا".
(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) قد يكون المنادي من أهل النَّار رجل كان سيدًا على قومه، والمنادَى كان ضعيفًا، أو عبدًا مملوكًا، كانت وظيفته حقيرة، وكان يُزدرى، وكان هذا الرجل صاحب المال يظلمه وكان طاغيًا جبارًا، والآن يناديه ويسأله.
(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) ما عندكم؟ (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ) نريد شربة ماء، (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ) و(مِنَ) للتبعيض، لا نريد الماء كله؛ نريد بعض الماء، ذبحنا العطش، والله –تعالى- قد ذكر عنهم أنهم إذا استغاثوا: (يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف: 29].
(أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ) ثم قالوا احتياطًا: (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أي: إذا امتنعتم من الماء، فأعطونا أي شيء عندكم، فجاء الجواب القاطع: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف: 50]؛ الكافرون في الدنيا حُرِموا في الآخرة لذاتٍ عظيمة وخيراتٍ كبيرة، والله لو قالوا في الدنيا: "لا إله إلا الله" وأخرجوا الكِبر من قلوبهم وسلكوا الصراط المستقيم لتنعَّموا مع أهل الجنة.
ثم ذكر الله -تعالى- صفاتهم: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا)[الأعراف: 51]، اتخذوا طاعتهم لهوًا ولعبًا، دائمًا في استهتار ومزاح، حتى إنهم يستهزئون بأهل الدين والاستقامة، يستهزئون بالشريعة ويتنقصون ويقولون: رجعية! أنتم متخلفون! أنتم وأنتم!
ثم قال جل وعلا: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ) ما عذرهم؟ في الدنيا: أرسل الله لهم رسولًا، وعندهم كتابٌ يقرأونه ولكن زهدوا فيه وتركوه وهجروه.
(عَلَى عِلْمٍ) بيَّناه على علمٍ منَّا (هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأعراف: 52]، هذا القرآن هو رحمة وهدى لمن؟ لقوم يؤمنون.
فيا عبد الله: إذا لم تجد في القرآن هداية لك، وإذا لم تشعر بأنه رحمةٌ لك، فراجع إيمانك، راجع إيمانك، راجع عقيدتك.
إنَّ أهل الإيمان والتقى إذا سمِعوا آيات الله تُتلى عليهم يخرون للأذقان سجدًا يبكون، وتهتز قلوبهم ويزداد إيمانهم.
نسأل الله -جل وعلا- أن يُحسن ختامنا، اللهم إنَّا نسألك حُسن الخاتمة، اللهم إنَّا نسألك النجاة من النار.
نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم إنَّا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى وإمام الورى، فقد أمركم بذلك جل وعلا فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعِم وتفضَّل على عبدك وخليلك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.