الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله بن مشاري المشاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الزهد |
عباد الله: هل نفع الأغنياء ما أبقوه بعد وفاتهم؟ لُفُّوا في خرقةٍ أصبحت لهم كفناً! وسكنوا قبراً ضيقاً! وتركوا أموالهم لورثتهم! عليهم غرمها! ولوارثهم غنمها! ولا مال يبقى للغني إلا ما سبَّله، أو تصدَّق به على فقيرٍ أو مسكينٍ أو أرملةٍ أو يتيم، أو غارم مدين، أو ما أنفقه في وجوه البر والإحسان المتعددة.
الخطبة الأولى:
الحمدلله فضَّل بعضنا على بعض في الرزق، فمنَّا من وسَّع عليه، ومنا من قُدِر عليه رزقُه، في حكمة بالغة منه عز وجل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين. وأشهد أنَّ سيدنا وحبيبنا محمداً صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا اللهَ -أيها المسلمون-، واغتنموا أوقاتَكم بما يقرِّبكم إلى الله، واعلموا أنَّ التفاضلَ بين الناس، إنما يكون بالتقوى فحسب، ولا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى، ولا لمفتخِرٍ بنسبه وحسبه، فيفتخر بحسَبِ بقبيلته، أو يفتخر بحسَبِ عشيرته، أو يفتخر بحسَبِ أسرته، لا، فإنَّ هذه خصلة جاهلية ذمَّها الإسلام وحذَّر منها.
عباد الله: اعملوا أنَّ التفاوت بين الناس في الرزق ليس فيه فضيلة للغني على الفقير، فرُبَّ فقيرٍ مُحتَقرٍ بين الناس هو أعظم قدراً عند الله من ذلك الغني، والله -سبحانه- يعطي الدنيا من يحبُّ ومن لا يحبُّ، ولا يعطي الدين والصلاح إلا من يُحبُّ فحسب، روى البخاري في صحيحه بسنده عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟" قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟" قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَذَا" أي الفقير "خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا"(أخرجه البخاري).
فالغنى وإن نال صاحبُه من الدنيا ما نال من العز والسمعة والقوة والمنعة، والإشارة إليه بالبنان، وعلو شأنه وارتفاع صيته، فليس بدليل على أنَّه أفضل من الفقير المحتَقَر الذي لا يأبه له الناس، فقد يكون ذلك الفقير أرفع شأناً وأعزُّ قدراً، وأخيرُ ديناً من ملء الأرض أمثال ذلك الغني، والله -سبحانه وتعالى- يعطي لحكمة ويمنع لحكمة، وهو أرحم بنا من أنفسنا ووالدينا، قال تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[العنكبوت: 62].
فمن رضي -يا عباد الله- بما قسم الله له، ولم ينظر إلى ما عند غيره من الأموال، فإنَّه إلى طريق الفلاح يسير، وهو السعيد في أولاه وأخراه، وأما من ينظر إلى ذلك الغني، ويُعدِّد أمواله، وما يعيش فيه من ثراء، من امتلاكه للقصور، والمزارع والأراضي، والمراكب الوثيرة، فإنَّه إنما ينظر إلى الفاني، ولم ينظر إلى الباقي، فإنما الحياة هي الحياة في الآخرة، وأما الدنيا فإنما هي متاع الغرور، قال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185].
قال السعدي -رحمه الله-: "هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار، التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار، من خير وشر".
عباد الله: هل نفع الأغنياء ما أبقوه بعد وفاتهم، لُفُّوا في خرقةٍ أصبحت لهم كفناً، وسكنوا قبراً ضيقاً، وتركوا أموالهم لورثتهم، عليهم غرمها، ولوارثهم غنمها، ولا مال يبقى للغني إلا ما سبَّله، أو تصدَّق به على فقيرٍ أو مسكينٍ أو أرملةٍ أو يتيم، أو غارم مدين، أو ما أنفقه في وجوه البر والإحسان المتعددة، فعلى الغني أن يشكر الله أنْ أغناه، ويعرف لنعم الله حقَّها فلا يصرف شيئاً منها إلا في واجب أو مستحب أو مباح، ولا يصرف شيئاً منها في محرم، فلا يسرف في المسكن والملبس والمشرب والمأكل، بل يكون وسطاً، قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]، قال الماوردي -رحمه الله-: "فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تسرفوا في التحريم. والثاني: معناه لا تأكلوا حراماً فإنه إسراف. والثالث: لا تسرفوا في أكل ما زاد على الشبع فإنه مضر".
وكذلك فإنَّ على الفقير أن لا يتسخط ولا يتشكى، بل عليه أن يصبر؛ لعله أن يصل درجة الصابرين، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10].
ولله -سبحانه وتعالى- حكمة في تفاوت الناس في أرزاقهم؛ ليكون بعضهم لبعض سخرياً، فهذا فلاح وآخر حرفي وآخر بنَّاء إلى غيرها من الأعمال، وكلٌّ منهم محتاج إلى الآخر في تكامل مجتمعي، قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[الزخرف: 32].
قال السعدي -رحمه الله-: "لو تساوى الناس في الغنى، ولم يحتج بعضهم إلى بعض، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم".
أيها المسلمون: إنَّ الرضا بما قسم الله من الرزق من صفات المؤمنين الصادقين الذين لا ينظرون إلى ما في أيدي الناس، ويشكرون الله على ما هم فيه من النعمة، قناعة وكفاية ورضاً، قال صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ"(أخرجه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ" قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: "عَلَيْكُمْ"(أخرجه مسلم).
أمَّا الطمَّاع -يا عباد الله- فإنَّه لا يشبع مهما امتلك من الأموال، قال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ لابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"(أخرجه البخاري ومسلم).
أيها المسلمون: إنَّ طمع الإنسان قد يجرُّه إلى الكذب والحسد والغيبة والنميمة وإلى جحد النعم التي منَّ الله بها عليه، والواجب أن يرضى المسلم بما قسم الله له من الرزق، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ"(أخرجه الترمذي وابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان وصححه الألباني).
اللهم اجعل الآخرة همنا وارزقنا القناعة بما آتيتنا، واجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها عليك قابلين لها وأتممها علينا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.