البحث

عبارات مقترحة:

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

الخالق

كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...

فتح القسطنطينية

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. نشأة محمد الفاتح وتربيته ودراسته .
  2. تخطيطه لفتح القسطنطينية .
  3. أحداث فتح القسطنطينية .

اقتباس

ومع واحد من أولئك الأبطال العظماء الذين صنعوا للأمة مجدًا وحجزوا لأنفسهم مكانًا فوق القمم، نعيش مع بطل حقيقي في زمن استأسدت فيه الضباع والبغاة. نعيش مع بطل تحققت على يديه نبوءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزال به الله تبارك وتعالى ملك قيصر الروم، إنه...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: إنما ترتفع الأمم حين تعلو همم رجالها وبطولاتهم، ومن أولئك الأبطال العظماء الذين صنعوا للأمة مجدًا؛ ذلك البطل الذي أزال به الله -تبارك وتعالى- ملك قيصر الروم، وتحققت على يديه نبوءة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ"(صحيح البخاري).

إنه محمد الفاتح بطل بين عظماء صنعهم الإسلام، تربى منذ نعومة أظفاره على حب الله ورسوله، وعلى الفروسية والشجاعة، حتى شهد -وهو طفل صغير- مع والده السلطان مراد الثاني معارك كثيرة.

حفظ محمد الفاتح القرآن الكريم ولم يكمل العاشرة من عمره، وكان شيخه الشيخ آق شمس الدين يصحبه إلى مضيق البوسفور ويشير إلى قلعة الأناضول، ويقول له: بناها جدك لأجل حصار القسطنطينية، ثم يشير إلى ناحية الشرق حيث القسطنطينية ويقول له: دفن الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي ضيَّف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم -عليه السلام- إلى المدينة مهاجرًا.

ويروي له الأحاديث الكثيرة في فضائل فتح القسطنطينية، وحرص شيخه كذلك على غرس معاني العزة الإسلامية في نفس الصبي، فكان أن قصَّ عليه سيرة النبي الكريم وصحابته -رضوان الله عليهم أجمعين-، كما قرع مسامعه بقصص البطولات الإسلامية التي لا تحصى كثرة.

كان محمد الفاتح يجيد الحديث بسبع لغات حية إجادة تامة هي اللغة العربية والفارسية واللاتينية والإفريقية والصربية والإيطالية، فضلاً عن اللغة التركية بالطبع، كما كان شاعرًا أديبًا.

ودرس -رحمه الله- علوم الرياضيات والفلك والعلوم الإدارية والعسكرية، كما درس علوم الهندسة الميكانيكية، وكان نابهة نابغة لكأنما قد أعد إعدادًا لنيل المنقبة والشرف ولتحقيق ذلك الحلم الذي استعصى على إحدى عشرة محاولة إسلامية طيلة أكثر من ثمانية قرون متواصلة، ألا وهو فتح القسطنطينية.

عباد الله: بعد وفاة أبيه السلطان بايزيد الثاني شرع محمد الفاتح في الأخذ بأسباب تحقيق ذلك الحلم الذي طالما داعب خياله، ألا وهو فتح القسطنطينية تلك المدينة المحصنة المنيعة التي استعصت على الفاتحين عبر القرون.

فبنى على المضيق الأوربي لمضيق البوسفور قلعة عظيمة، تبعد ستمائة وستين مترًا فقط عن قلعة جده بايزيد في الناحية الآسيوية لمضيق البوسفور، مكنته هذه القلعة مع قلعة جده من التحكم في مضيق البوسفور، ثم أصدر -رحمه الله- أوامره بضغط الإنفاق الحكومي لصالح المجهود الحربي، وبدأت مصانع السلاح المنتشرة في أرجاء الدولة العثمانية تعمل ليل نهار؛ لأجل توفير المعدات والأسلحة اللازمة لهذه المهمة الثقيلة.

ولقد كان العثمانيون -رحمهم الله- سادة صناعة السلاح في العالم، ما احتاجوا أبدًا إلى استيراده من الخارج، بدأت المصانع تعمل ليل نهار، واستقدم السلطان مهندسًا مجريًا يدعى "أوربان" كان ماهرًا في صناعة وتصميم المدافع، استقدمه وأجزل له العطاء ووفر له الرجال والإمكانات لأجل تصميم المدافع.

وبدأ "أوربان" يعمل بهمة ونشاط، وكان من بين ما أنتج -عباد الله- ذلكم المدفع العملاق والذي عرف بالمدفع السلطاني كان يزن سبعمائة طن ويطلق قذيفة تزن ثلاثمائة كيلو جرام لمسافة كيلو مترين تقريبًا.

أيها المسلمون: بدأ السلطان الاستعدادات في مدينة أدرنة واحتشد له مائتين وخمسين ألف مقاتل، فسار بهم إلى القسطنطينية التي كانت مركزًا لانطلاق الدعم المعنوي والعسكري للصليبيين ضد الإسلام والمسلمين، سار السلطان بالجيش، فوصل إلى مشارف القسطنطينية بعد شهرين من تحركه، وصل في يوم الخميس 26 من ربيع الأول عام 857هـ.

وكان الدعم الصليبي قد وصل إلى المدينة من أوروبا، عبر سفن محملة بالسلاح والرجال والخمور إلى القسطنطينية حتى يشدوا من أزر أهلها وحتى يقووا من عزيمتهم.

وصل الجيش الإسلامي إلى القسطنطينية ونصبت المدافع، وقامت 120 سفينة إسلامية بمحاصرة المدينة من الناحية الجنوبية.

نصبت المدافع وبدأ دوي الانفجارات الهائلة، وكان المدفع السلطاني هو مفاجأة المفاجآت؛ لقد كان صوته يسمع على بُعد 25 كيلو مترًا وتحدث قذيفته حفرة في الأرض بعمق ستة أقدام تقريبًا، خلع صوت دويه قلوب الصليبيين، وأخذوا يرممون على الفور ما تهدم من أجزاء السور المختلفة وأظهروا مقاومة عنيفة.

وأصدر السلطان محمد الثاني أوامره إلى قائد بحريته بمحاولة اقتحام مضيق القرن الذهبي حتى يكتمل الحصار من الجهات الأربعة. وجلس السلطان مع قادته يفكرون في كيفية اختراق تلك السلسلة واقتحامها، واهتدى بعد تفكير عميق -رحمه الله- إلى حيلة لم يسبقه إليها أحد في التاريخ كله. لقد قرر -رحمه الله- أن يسحب السفن عبر اليابسة وينزلها إلى مضيق القرن الذهبي متجاوزًا تلك السلسلة، عرض فكرته على القادة، فتعجبوا واندهشوا وأبدوا حماسًا شديدًا، فأمرهم بتكثيف نيران المدفعية ليلاً ونهارًا برًا وبحرًا حتى ينشغل الصليبيون عن تلك الجبهة البرية الجديدة التي ستفتح، وقبِل المسلمون التحدي وقاموا بتسوية الجبال قدر إمكانهم، ثم أحضروا الكتل الخشبية العظمية وطلوها بالشحم، ثم جاءت الثيران ومعها الجنود يسحبون السفن عبر ذلك الطريق الخشبي الذي تم طلاؤه بذلك الشحم.

وفي صباح اليوم التالي فغر الصليبيين أفواههم على مشهد عجيب، فلقد رأوا سفينة تحمل العلم العثماني الذي يتوسطه الهلال، رأوها تنخر عباب اليابسة وتنزل إلى مضيق القرن الذهبي، فنظروا في مياه القرن الذهبي فإذا بهم يجدون سبعين سفينة إسلامية وقد أنزلت بهذه الطريقة وبهذه الحيلة التي لم يفعلها أحد في التاريخ كله.

أصبح المسلمون يحاصرون المدينة من الجهات الأربع وتوالى القذف شديدًا سريعًا متلاحقًا وقام المسلمون بردم أجزاء من الخندق، وأزالوا المتراس، وهدموا أجزاء من السور الأول لتتوالى القذائف إلى داخل المدينة ذاتها، جعلت القذائف تنطلق نحو المدينة كأنها المطر.

عباد الله: دام الحصار 54 يومًا، وفي ليلة الثلاثاء 20 من جمادى الأولى عام 857هـ والتي وافقت 29 من مايو عام 1453م انطلق السلطان في جوف الليل إلى خيمة شيخه آق شيخ الدين، فوجد الشيخ ساجدًا يبكي يدعو الله -تبارك وتعالى- أن يفتح على المسلمين القسطنطينية، فاستبشر السلطان استبشارًا عظيمًا، وأيقن أن النصر آتٍ بإذن الله.

فعاد إلى المعسكر وأمر الجند أن يشعلوا نارًا عظيمة وأن يحتفلوا بالنصر مقدمًا، ونظر الصليبيون من فوق أبراجهم ومن فوق أسوارهم فظنوا أن النار قد شبت في معسكر المسلمين، ولكنهم فوجئوا بصوت أهازيج النصر وأناشيده، فأيقنوا وأدركوا أن المسلمين قد عقدوا العزم على الصدمة الكبرى غدًا.

وبالفعل وعقب صلاة الصبح وفي غبش الفجر أمر السلطان -رحمه الله- سلاح القوات الخاصة من الإنكشارية أن يعملوا جاهدين على رفع الأعلام الإسلامية العثمانية فوق سور مدينة القسطنطينية، وبالفعل انطلقت القوات الخاصة ومعها الحبال والسلالم التي تنتهي بالخطاطيف، وبعد قتال ضارٍ عنيف استشهد خلاله قائد الفرقة في مجموعة من رجاله تمكنت القوات الخاصة من رفع الأعلام الإسلامية فوق سور مدينة القسطنطينية التي يحيط بها من كل جوانبها.

وارتفعت الأعلام الإسلامية لترتفع معها معنويات المسلمين ولتتدنى معنويات الصليبين، ثم أمر السلطان -رحمه الله- أن ينقسم المهاجمون إلى ثلاث مجموعات تهاجم مجموعة تتبعها ثانية وثالثة؛ ما أرهق الصليبين إرهاقًا عظيمًا، ثم أمر بتكثيف نيران المدفع العملاق نحو باب رومانس، فكان أن تصدع الباب؛ نظرًا لتوالي القذائف عليه.

في ذات الوقت -عباد الله- كانت ميسرة الجيش الإسلامي تنطلق نحو باب أدرنة تغطيها نيران المدفعية الإسلامية، وبعد قتال ومناوشات عنيفة تمكنت الميسرة من فتح باب أدرنة ليحدث القتال وجهًا لوجه ولأول مرة بين المسلمين والصليبيين، ويتمكن أحد جنود المسلمين من شطر قائد القوات المدافعة عن باب أدرنة نصفين لتنهار المقاومة تمامًا ولتندفع الميسرة إلى داخل المدينة.

تزامن هذا مع قيام السلطان والقوات بحملة على باب رومانس بعد تصدعه، وبعد قتال ضارٍ عنيف تمكن -رحمه الله- من اقتحام باب رومانس، ولم تأت صلاة ظهر ذلك اليوم الثلاثاء 20 من جمادى الأولى عام 857هـ - 29 من مايو عام 1453م لم تأت صلاة ظهر ذلك اليوم إلا وميمنة الجيش الإسلامي تدخل المدينة من باب العسكري.

وبعدها دخل الجيش الإسلامي بأجمعه إلى المدينة وحدث القتال ضاريًا عنيفًا بين الفريقين، واستبسل المسلمون استبسالاً كبيرًا، وقاتل الصليبيون قتالا عظيمًا، حتى انهزموا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

عباد الله: بعد انتصار المسلمين الساحق سأل السلطان محمد الفاتح عن شيخه آق شمس الدين فأُخْبِرَ أنه لم يدخل المدينة بعدُ، فخرج للبحث عنه بنفسه خارج المدينة، وفي مشهد يذيب الصخور إذا بالشيخ -رحمه الله- وقد دُلَّ على قبر أبي أيوب الأنصاري، إذا بالشيخ -رحمه الله- جالس بجوار قبر أبي أيوب -رضي الله عنه- وهو يبكي وينتحب، فيعتنقه السلطان وهو يبكي ويقبل رأسه ويده ثم يدخله المدينة، ثم يأمر -رحمه الله- بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد لأن المدينة قد فتحت قتالاً وعنوة ولم تفتح سلمًا وصلحًا.

وبالفعل يقوم سلاح المهندسين بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، أزيل معلم الشرك ليحل محله معلم التوحيد، وليخطب الشيخ آق شمس الدين أول خطبة جمعة بالمدينة وليطلق على السلطان محمد الثاني لقب محمد الفاتح.

ثم يصدر السلطان محمد الفاتح فرمانًا يقضي بتحويل العاصمة من أدرنة إلى القسطنطينية، ويغير اسمها من القسطنطينية إلى إسلامبول يعني مدينة الإسلام، ودرج الناس بعد ذلك على نطقها إسطنبول.

إنها إسطنبول الإسلامية -عباد الله- والتي فتحها السلطان العظيم محمد الفاتح حول عاصمة ملكه من أدرنة إلى القسطنطينية، ثم أخذ يضبط أمورها وينظم شؤونها، ثم انطلق يواصل الكفاح والجهاد، ففتح بلاد البوسنة والهرسك وبلاد الصرب وبلغاريا ورومانيا وألبانيا والجزر الجنوبية لليونان وشبه جزيرة القرم في أقصى جنوب الاتحاد السوفيتي السابق، وضرب الجزية على المجر شيكوسلوفكيا مائة ألف دوك ذهبي على كل واحد.

وفي اليوم الرابع ليلة الخامس من ربيع الأول عام 886هـ اشتد به المرض ثم فاضت روحه -رحمه الله- إلى بارئها، وسكن الجسد الذي لم يهدأ لحظة واحدة في سبيل الله، مات الفارس الذي أبى أن يعيش على هامش الحياة، وحجز لنفسه مكانًا فوق سوامق القمم بين عظماء ما صنعهم إلا الإسلام.

إن محمد الفاتح قصة بطولة حقيقية من بين مئات القصص التي يزخر بها تاريخنا المجيد، والتي ما أحوجنا -عباد الله- إلى استخراجها من بين دفائن الكنوز؛ لنتعرف عليها أولاً، ولنرسخ في نفوس نشأنا وأبنائنا العزة والتمكين في زمن غربة الإسلام وندرة الرجال.

هذا وصلوا وسلموا على رسول الله ..