البحث

عبارات مقترحة:

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

الوارث

كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...

فتح مكة

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. سبب فتح مكة .
  2. بعض أحداث فتح مكة .
  3. أهم الدروس والعبر المستفادة من فتح مكة .

اقتباس

خاض النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام عدة غزوات خالدة؛ بهدف نشر الإسلام، والدفاع عن المستضعفين، وكسر شوكة الطغاة المتجبرين الذين يحولون بين الناس وبين دخول الإسلام، وكانت هذه الفتوحات نصرًا وعزًّا للإسلام والمسلمين، ورحمة وهداية لغير المسلمين. ومن فتوحات المسلمين العظيمة ..

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: خاض النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام عدة غزوات خالدة؛ بهدف نشر الإسلام، والدفاع عن المستضعفين، وكسر شوكة الطغاة المتجبرين الذين يحولون بين الناس وبين دخول الإسلام، وكانت هذه الفتوحات نصرًا وعزًّا للإسلام والمسلمين، ورحمة وهداية لغير المسلمين.

ومن فتوحات المسلمين العظيمة ومناسبات النصر الكبيرة: فتح مكة المكرمة، الذي حدث في شهر رمضان المبارك من العام الثامن للهجرة النبوية.

 

أيها المؤمنون: لقد تعاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين في صلح الحديبية سنة ست من الهجرة على أن تضع الحرب أوزارها عن الناس عشر سنين، وأن من شاء أن يدخل في عقد محمد -صلى الله عليه وسلم- وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش دخل فيه.

وكان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على الوفاء بالعهد حتى في أشد الظروف صعوبة وحرجًا، أعاد أبا بصير وأبا جندل إلى المشركين، وقد جاءا إليه ولما تنتهِ مراسم الصلح؛ فارّين بإسلامهم، والقيود موثقة بأقدامهما، ولا عجب في ذلك، فالدين دين الله تعالى، والمسلمون موعودون بالنصر والتمكين والعاقبة الحميدة.

والغدر ليس من صفات النبيين وأتباعهم، ولكن الصبر له حدود، والعهد له شروط، فإذا نقض العدو العهد واستباح الحمى واعتدى على حلفاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا مجال حينئذ إلا للعقوبة الرادعة التي تكفّ الباغي عن بغيه، وتردعه عن ظلمه، وتكفه عن عدوانه.

أيها المسلمون: دخلت خزاعة في حلف محمد -صلى الله عليه وسلم- وعهده، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدها، فمكثوا في تلك الهدنة نحو ثمانية عشر شهرًا، ثم إن بني بكر هجموا على خزاعة ليلاً، وأعانتهم قريش عليهم بالسلاح وقاتلوهم معهم.

فخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فوقف عليه -وهو جالس في المسجد بين ظهراني أصحابه- يقول: قتلونا وقد أسلمنا واتبعناك ودخلنا في عهدك وعقدك وحماك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نُصرت يا عمرو بن سالم".

لقد كانت استجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- لنصرة حلفائه وأتباع دينه والرد على عدوان قريش سريعة حازمة لا تقبل المناقشة ولا التردد، فلن يتوقف أعداء الله تعالى عن كيدهم وعدوانهم على الإسلام والمسلمين إلا حين يعرفون أن المسلمين لا يقبلون الضيم ولا يرضون الاعتداء ولا يركنون إلى الذل والضعف، قادرون -بإذن الله- على حماية دينهم وأوطانهم من الظلم والعدوان: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[التوبة12-13].

عباد الله: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالتجهز للغزو ولم يخبر أحدًا بوجهته؛ لئلا يستعد المشركون للقتال، فتجهز الناس، واستنصر القبائل التي حول المدينة حتى بلغ عدد المسلمين عشرة آلاف مقاتل.. وبلغ الخبرُ المشركين، فأرسلوا أبا سفيان؛ ليجدد العهد مع محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقدم المدينة وكلّم رسول الله قائلاً: هلمّ فنجدد بيننا وبينك كتابًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فنحن على أمرنا الذي كان، وهل أحدثتم من حدث؟!"، قال أبو سفيان: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فنحن على أمرنا الذي كان بيننا".

حاول أبو سفيان أن يكلم بعض الصحابة؛ كي يشفعوا له عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تجديد العهد والمدة، ولكن محاولاته باءت بالفشل.

فخرج حتى قدم على قومه بمكة، وخرج المصطفى بالمسلمين من المدينة في رمضان بعد أن استخلف عليها أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري -رضي الله عنه-، ومضى -صلى الله عليه وسلم- بالناس -وهو صائم والناس صيام-، حتى إذا كانوا بالكديد -وهو الذي يسميه الناس اليوم: قديدًا- أفطر وأفطر الناس معه، ثم مضى حتى نزل مر الظهران ومعه عشرة آلاف مقاتل.

وعمَّى الله الأخبار عن قريش، فهم على وجل وارتقاب، وكان أبو سفيان يخرج يتحسس الأخبار، فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار يومًا.

عباد الله: ركب العباس بغلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيضاء وخرج؛ لعله يجد أحدًا يخبر قريشًا؛ ليخرجوا لطلب الأمان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يدخلها عنوة، وبينما هو يسير سمع صوت أبي سفيان فدنا منه وقال له: "هذا رسول الله في الناس واصباح قريش والله!". قال أبو سفيان: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟! قال: والله لئن ظفر بك رسول الله ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك، فذهب به العباس حتى قدم به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يزل يراجعه حتى أخذ له الأمان، وأسلم أبو سفيان وشهد شهادة الحق، فقال العباس: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، قال: "نعم! من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"(رواه مسلم).

ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قريشًا صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش: هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فقالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟! قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.

وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- داخلاً مكة من أعلاها، وقد بعث الزبير على جانب المسلمين الأيسر، وبعث خالد بن الوليد على الجانب الأيمن وهو أسفل مكة، وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحالة والحسر وهم الذين لا سلاح معهم.

وقال لخالد ومن معه: "إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدًا حتى توافوني على الصفا"، فما عرض لهم أحد إلا قتلوه، وتجمع سفهاء من المشركين مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو بالخندمة؛ ليقاتلوا المسلمين، فلما لقيهم المسلمون ناوشوهم شيئًا من قتال، فقذفوا الرعب في قلوبهم، وقتلوا بعضهم وشردوا بعضهم وانهزم بعضهم.

 

عباد الله: هذه بعض أحداث فتح مكة، نصر الله -عز وجل- فيها محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة خاتم رسله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

أيها المسلمون: ودخل المسلمون مكة، وركزت راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجد الفتح، ثم نهض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرون والأنصار بين يديه ومن خلفه ومن حوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه ثم طاف بالبيت سبعًا.

وبثّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سراياه التي كانت حول مكة فكسرت كلها، منها اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره (رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى).

ثم أمر بالصور التي في الكعبة فمحيت، ودخل الكعبة فأغلق عليه الباب ومعه علي وأسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع وقف وصلى هناك، ثم دار في نواحي البيت وكبر الله ووحده، ثم فتح الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينظرون ماذا يصنع بهم، فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده،.. ثم قال: يا معشر قريش:" ما ترون أني فاعل بكم؟"! قالوا: خيرًا، أخ كريم! قال:" فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء"(أخرجه ابن هشام في السيرة، والبخاري مختصرًا).

وأمر -صلى الله صلى الله عليه وسلم- بلالاً الحبشي أن يصعد فوق الكعبة فيؤذن أمام الجموع الهائلة من أشراف مكة؛ ليبين لهم وللناس أجمعين أن التفاضل في ميزان الإسلام إنما هو بالتقوى لا بغيرها من الأنساب والشعارات البشرية.

وهكذا -أيها المسلمون- فتح الله تعالى مكة المكرمة على رسوله والمؤمنين فتحًا عظيمًا جلجلت به الآفاق، وخضعت به الجزيرة كلها للإسلام، وقرّت به أعين النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وصحابته بعد حرب للإسلام والمسلمين زادت على العشرين عامًا، منذ كانوا بمكة يستخفون بإسلامهم وتوحيدهم من المشركين الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب.

وسقطت الأصنام، وأخرجت الأنصاب والأزلام، وكسرت التصاوير ومحيت، وارتفعت راية التوحيد، وسقطت راية الشرك في الجزيرة العربية، وأعلن في سماء مكة لأول مرة دون منازع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده.

عباد الله: لقد كان فتح مكة ملحمة عظيمة، وفتحًا كبيرًا، وعزًّا ومجدًا للإسلام والمسلمين أعز الله به دينه، ونصر به رسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين ومثابة وأمنًا من أيدي الكفار والمشركين، وأعاد إليه رسوله والمؤمنين منتصرين غانمين ظافرين بعد أن أخرجوا منه وهو أحب البقاع إلى نفوسهم.

لقد دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة دخول الأنبياء والعظماء، خاشعًا ذاكرًا لله شاكرًا معترفًا بفضله ونصره وتوفيقه، ولم يدخلها دخول المتغطرسين الظالمين المتشفين سنين عددًا وهم يحاربونه ويقاتلونه، يكيلون له ولأصحابه العذاب، ويناصبونهم العداء، ما تركوا قبحًا ولا سوءًا إلا رموهم به وألصقوه بهم، ولو شاء أن يقتلهم جميعًا لأمكنه ذلك، ولكنه رسول رب العالمين، الرحمة المهداة للعالمين -صلى الله عليه وسلم- ما بُعث للناس؛ ليقتلهم ولا ليستعبدهم ولا ليظلمهم، إنما بُعث ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ثم أعلن حرمة مكة من جديد إلى يوم القيامة، ونهى أن يترخص أحد بقتال رسول الله فيها.

وبعد فتح مكة بادر كل قوم بإسلامهم، وقدمت الوفود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعاهده وتبايعه على الإسلام: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)[النصر:1-3].

نسأل الله تبارك وتعالى أن يعز دينه وينصر كتابه وعباده الصالحين، وأن يمكِّن لدينه في الأرض كلها.

هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..