الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المهلكات |
وإنه لمن المعلوم أن واقع الناس؛ إما عبادات أو معاملات، ثم إن المعاملات إما أن تكون نيةً أو قولاً أو عملاً، ومن تجاوز الحد في هذه الأمور الثلاثة أو أخل بها؛ ففيه من...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: إن الخصومة بين الناس أمرٌ واقعٌ لا محالة بينهم إلا من رحم ربي؛ لأن كثيرا من الخلطاء؛ ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم.
والأصل في الناس عدم الاختلاف والخصومة غير أن ذلك قد طرأ منذ أن قتل أحد ابني آدم الآخر، فانقلبت الحال؛ ليصبح الخلاف والخصومات أمراً لا مناص منه، ثم إن النسبية تحكمه بين الحين والآخر بحسب قرب الناس من شريعتهم وبعدهم عنها.
والخصومة مع الأعداء أشد منها مع الأصدقاء، وهي بين الأقران أشد منها مع الأبعدين، وفي الجيران أشد منها بين الأسرة الواحدة، وهكذا بين الأقرب فالأقرب دواليك.
ولأجل هذا -عباد الله- جاءت الشريعة الغراء ذامةً للخصومة فاضَّةً للنزاع محذرةً من التجاوز فيهما والخروج عن الإطار المشروع لهما؛ وهو طلب الحق؛ لتجعل مَنْ تجاوز ذلكم ممن التاث بسمة من سمات المنافقين؛ وهي الفجور في الخصومة الذي هو الميل وتجاوز الحد والحق.
وإنه لمن المعلوم أن واقع الناس؛ إما عبادات أو معاملات، ثم إن المعاملات إما أن تكون نيةً أو قولاً أو عملاً، ومن تجاوز الحد في هذه الأمور الثلاثة أو أخل بها ففيه من النفاق العملي بقدر الذي حصَّله منها، وجماع ذلكم هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "آيةُ المنافِقِ ثلاث: إذا حدَّثَ كَذَب، وإذَا وعَدَ أخْلَف، وإذا اؤتمِنَ خَان"(رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية: "وإذَا خَاصَمَ فَجَر". قال النووي في شرح مسلم: "وإن خاصم فجر", أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب، قال أهل اللغة: وأصل الفجور الميل عن الحق".
فهو إذا خاصم غيره وحاكمه إلى القاضي في خصومة مالية أو حقوقية فإنه يفجر بأن يكذب ويدعي ما ليس له, أو ينكر ما كان عليه, فَالْكَذِبُ طَرِيْقٌ إِلَى الْفُجُوْرِ كَمَا قَالَ الْنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِيْ إِلَى الْفُجُوْر, وَإِنَّ الْفُجُوْرَ يَهْدِيْ إِلَى الْنَّارِ".
الفاجر في الخصومة -عباد الله- هو من يعلم أن الحق ليس معه فيجادل بالباطل؛ فيقع فيما نهى عنه الله -جل وعلا- بقوله: (ولاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة:188] قال بعض السلف: "هذا في الرجل يخاصم بلا بينة ويعرف أن الحق عليه".
الفاجر في الخصومة -عباد الله- يسبق لسانه عقله وطيشه حلمه وظلمه عدله، لسانه بذيء وقلبه دنيء، يتلذذ بالتهم والتطاول والخروج عن المقصود.
الفاجر في الخصومة يزيد على الحق مائة كذبة، وترونه كالذباب لا يقع إلا على المساوئ، ينظر بعين عداوة لو أنها عين الرضا لاستحسن ما استقبح، لا يعد محاسن الناس إلا ذنوبا.
فيالله: كيف يعتذر من هذا الغر؟! ترونه أكالاً للأعراض همَّازًا مشاءً بنميم معتدياً أثيماً، له طبع كطبع الدود لا يقع على شيء إلا أفسده أو قذَّره.
الفاجر في الخصومة -عباد الله- لا أمان له ولا ستر لديه، فيه طبع اللئام؛ فإن اختلفت معه في شيءٍ حقير؛ كشف أسرارك, وهتك أستارك, وأظهر الماضي والحاضر؛ فكم من صديقٍ كشف ستر صاحبه بسبب خلاف محتقر، وكم من زوجة لم تُبقِ سرًّا لزوجها ولم تذر؛ بسبب خلاف على نقصان ملح في طعام أو كسوة أو نحو ذلك.
ولما كان النفاق لؤماً صار الفجور في الخصومة ثلث هذا اللؤم؛ فيجمع دمامة طبع ولؤم لسان، وكذلك اللؤم تتبعه الدمامة.
ليس العيب في مجرد الخصومة؛ إذ هي واقعٌ لا مناص منه في النفوس والعقول والأموال والأعراض والدين؛ إذ من ذا الذي سيرضى عنه الناس كلهم؟! ومن ذا الذي إذا رضي عنه كرام الناس لم يغضب عليه لئامهم؟!
والعجب كل العجب أن بعض الناس يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والزنا والظلم والسرقة وغير ذلكم, ويصعب عليه التحفظ من لسانه.
وكم نرى من مترفع عن تلكم الفواحش والآثام ولسانه يفري في الأعراض ولا يبالي ما يقول؛ فيبغي على خصمه، والله -جل وعلا- يقول: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة -علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها- وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-".
ولذا -عباد الله- فإن الفاجر في الخصومة ليس لديه حدٌّ ولا ضابط فيها، غايته تبرر وسيلته؛ سواء أكان هذا الفاجر في الخصومة في باب الحقوق أو العقائد أو الأخلاق.
ومن نظر إلى واقع المسلمين اليوم وما يكون فيه من التراشق المقروء والمرئي والمسموع؛ لَيجد لذلك أشكالاً وألواناً ويسمع رجع صدى لهذه المعرة, لتصبح ثقافة طالب العلم أو الصحفي أو الإعلامي أن الخصومة تبيح التطاول ليصل إلى النوايا ولينشر المستور.
ويصبح الحاكم الوحيد على مثل هذه القلوب المريضة هو عين الرضا التي تستر القبيح, أو عين العداوة التي تستقبح الإحسان, (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات:11]
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخصم كما صح بذلكم الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين وغيرهما، والألد هو: الأعوج في الخصومة بكذبه وزوره وميله عن الحق.
ومن هذه حاله فقد شابه من أرادهم الله بقوله: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً)[مريم:97]؛ أي مجادلون بالباطل ومائلون عن الحق في الجدال والخصومة.
وقد ذكر بعض السلف أن من أكثر في المخاصمة وقع في الكذب كثيرا؛ ولأجل هذا قال عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله تعالى-: "مَنْ جعلَ دينَهُ عُرضةً للخُصومات أسْرعَ التَّنقُّل"؛ أي لم يستقر على منهج معين ولا مبدأ واضح.
قال الحافظ بن رجب -رحمه الله-: "إذا كان الرجل ذا قدرةٍ عند الخصومة -سواء كانت خصومة في الدين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل ويخيل للسامع أنه حق ويوهن الحق ويخرجه في صورة الباطل -كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق".
وفي سنن أبي داود: عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ خَاصَمَ في باطِلٍ وهو يعلمُه لم يزلْ في سخَطِ اللهِ حتَّى ينْزِع".
ولذا فإن اللبيب العاقل -عباد الله- ليس هو الذي يميز بين الخير والشر في الخصومة فحسب؛ لأن كثيراً من الناس يملك هذا التمييز، ولكن اللبيب حقاً هو من يميز في مثل هذه الأمور خيرَ الخيرين وشر الشرين، وما سقط من سقط في الخصومات الدينية والدنيوية العقدية والفكرية الثقافية والإعلامية إلا بسبب الجهل بهذا الأمر العظيم، ولقد أحسن من قال:
إنَّ اللَّبِيبَ إذَا بَدَا لهُ مِنْ جسْمِه
وفي التاريخ من صور العدل والإنصاف في الخصومة والاختلاف ما لا يحصى عده، ونضرب لذلكم بمثلين في الاختلاف العملي والعقدي:
ففي الاختلاف العلمي: نجد بعض شراح (صحيح البخاري) يعلق على مسألة قد وافق البخاري فيها رأي الحنفية فيقول: "وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم؛ لكن قاده إلى ذلك الدليل".
ومثل الاختلاف العقدي هو: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مع الرازي المشهور الذي وقع في ضلالات عقدية ومنكرات منهجية؛ فخصه شيخ الإسلام بكتابٍ بلغ عشرة مجلدات يرد فيه على ضلالاته.
ومع ذلك فقد قال عنه شيخ الإسلام: "ومن الناس من يسيء الظن به -أي بالرازي- وهو أنه يتعمد الكلام بالباطل وليس كذلك، بل تكلم بحسب مبلغه من العلم، والنظر والبحث في كل مقام بما يظهر له".
فلا إله إلا الله! ما أعظم العدل والإنصاف في الخصومة والاختلاف، وما أدنأ الظلم والفجور والتجني فيهما! ولقد أحسن من قال:
وإنَّ خِيَارَ النَّاسِ مَنْ كانَ مُنْصِفًا
وَإِنْ شِرَارَ النَّاسِ مَنْ كَانَ مَائِلًا
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...