البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - صلاة العيدين |
وَإِنَّ العَالَمَ اليَومَ يَشهَدُ طُوفَانًا لِلشَّرِّ طَاغِيًا، وَزَحفًا لِلبَاطِلِ عَادِيًا، وَزَهوًا لَهُ وَانتِفَاشًا وَتَعَالِيًا، وَسَيَنجَرِفُ مَعَ هَذَا البَاطِلِ مَن يَنجَرِفُ، وَسَيَنحَرِفُ إِلَيهِ مَن يَنحَرِفُ، وَلَن يَنجُوَ إِلاَّ مَن عَصَمَهُ اللهُ وَاعتَصَمَ بِحَبلِهِ المَتِينِ..
الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمدَ للهِ؛ نَحمَدُهُ وَنَستَعِينُهُ وَنَستَغفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعمَالِنَا، مَن يَهدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ. صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ، وَمَن تَبِعَ سُنَّتَهُ وَسَارَ عَلَى نَهجِهِ.
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَمَّا بَعدُ، فَإِنَّ أَصدَقَ الحَدِيثِ كَلامُ اللهِ، وَخَيرَ الهَديِ هَديُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: اليَومَ شُكرٌ للهِ وَتَكبِيرٌ؛ تَكبِيرُ تَعظِيمٍ وَثَنَاءٍ وَتَمجِيدٍ، وَشُكرُ عِرفَانٍ بِتَوفِيقِهِ عِبَادَهُ لِلصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَمَا سَهَّلَهُ لَهُم مِن صَالِحَاتٍ وَقُرُبَاتٍ في شَهرِ رَمَضَانَ، وَشُكرٌ لَهُ قَبلَ ذَلِكَ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ مِن نِعمَةِ الهِدَايَةِ لِلإِسلامِ، وَمَا بَيَّنَهُ في كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الحَلالِ وَالحَرَامِ، وَمَا أَنعَمَ بِهِ مِنَ الهِدَايَةِ لِلصِّرَاطِ المُستَقِيمِ وَالتَّوفِيقِ لِلإِيمَانِ؛ (لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ)[آل عمران:164].
أَجَلْ -أَيَّهُا المُسلِمُونَ- إِنَّ أَعظَمَ مِنَّةٍ وَأَجَلَّ مِنحَةٍ للهِ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ، وَبِهَا تَبَوَّأَت مَكَانَتَهَا في هَذَا العَالَمِ وَاكتَسَبَت قِيمَتَهَا، أَنْ بَعَثَ فِيهَا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلى اللهِ بِإِذنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَكَانَ أَنْ أَسَّسَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- أُمَّةَ القِيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ وَرَفَعَ بُنيَانَهَا، وَعَلَّمَهَا وَرَبَّاهَا وَزَكَّاهَا، وَنَقَلَهَا مِنَ الضَّلالِ المُبِينِ إِلى العِلمِ وَالحِكمَةِ، وَبَعدَ أَن كَانُوا غَارِقِينَ في وَحَلِ جَاهِلِيَّتِهِم وَجَهلِهِم، في شِركٍ وَرِجسٍ وَوَثَنِيَّةٍ، وَأَدوَاءٍ خُلُقِيَّةٍ وَأَمرَاضٍ اجتِمَاعِيَّةٍ، وَحُرُوبٍ طَاحِنَةٍ لأَسبَابٍ تَافِهَةٍ، وَحَمِيَّاتٍ وَثَارَاتٍ وَنَعَرَاتٍ، وَحَيَاةٍ خَالِيَةٍ مِن المَعَالي مَشغُولَةٍ بِالتَّوَافِهِ.
بَعَثَ اللهُ إِلَيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم، فَدَعَاهُم إِلى اللهِ وَحدَهُ لِيُوَحِّدُوهُ وَيَعبُدُوهُ، وَيَخلَعُوا مَا كَانُوا يَعبُدُونَ هُم وَآبَاؤُهُم مِن دُونِهِ، وَيَدَعُوا مَا كَانُوا عَلَيهِ مِن أَخلاقِ الجَاهِلِيَّةِ، فَتَلا عَلَيهِمُ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ، وَزَكَّاهُم بِمَا عَلَّمَهُم مِنَ الكِتَابِ وَالحِكمَةِ، فَارتَفَعَ بِالإِسلامِ شَأنُهُم، وَصَارَت لَهُم في النَّاسِ مَنزِلَةٌ وَمَكَانَةٌ، وَأَصبَحَ لَهُم في العَالَمِ قَدرٌ وَذِكرٌ وَأَثَرٌ، فَمَضَوا شَرقًا وَغَربًا يَنشُرُونَ الإِسلامَ، وَرَاحُوا يَمِينًا وَشِمَالاً يَفتَحُونَ البُلدَانَ، وَطَهَّرُوا القُلُوبَ وَالصُّدُورَ بِالقُرآنِ، وَصَحَّحُوا الأَفكَارَ وَالتَّصَوُّرَاتِ بِالعِلمِ وَالإِيمَانِ، وَبَنَوا مُجتَمَعَاتٍ وَأَقَامُوا دُوَلاً، وَسَنُّوا أَنظِمَةً وَحَكَمُوا قُرُونًا، وَطَهُرَت بِهِمُ الأَرضُ وَصَفَت مِن أَرجَاسِ الشِّركِ، وَسَلِمَتِ المُجتَمَعَاتُ مِن أَوضَارِ الجَاهِلِيَّةِ وَأَعيَادِهَا الوَثَنِيَّةِ، وَتَنَزَّهَت عَن عَادَاتِهَا السَّيِّئَةِ السَّاقِطَةِ، وَنَبَذَت أَخلاقَهَا المَرذُولَةَ الهَابِطَةَ.
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: يَشهَدُ التَّأرِيخُ أَنَّ المُجتَمَعَاتِ الَّتي كَانَ الإِسلامُ فِيهَا ظَاهِرًا، وَالسُّنَّةُ مَنشُورَةً وَالدَّعوَةُ إِلى اللهِ مَنصُورَةً، وَالأَمرُ بِالمَعرُوفِ قَائِمًا وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ ظَاهِرًا، وَالأَذَانُ مَرفُوعًا وَالجُمَعُ وَالجَمَاعَاتُ مُقَامَةً، أَنَّهَا كَانَت خَيرَ المُجتَمَعَاتِ وَأَطهَرَهَا، وَأَعدَلَهَاَ وَأَوسَطَهَا، وَأَوفَاهَا بِالحُقُوقِ وَأَبعَدَهَا عَنِ الظُّلمِ.
وَالعَربُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَذكُرُونَ كَيفَ كَانُوا في الجَاهِلِيَّةِ وَكَيفَ أَصبَحُوا بَعدَ الإِسلامِ، وَهُم يُدرِكُونَ أَنَّهُم لم يَكُونُوا بَالِغِي مَا بَلَغُوهُ مِن عِزٍّ بِغَيرِ الإِسلامِ، فَالإِسلامُ هُوَ الَّذِي نَقَلَهُم مِن رِبَاطِ القَبِيلَةِ القَومِيِّ الضَّيِّقِ، إِلى رِبَاطِ الأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ الأُمَمِيِّ الوَاسِعِ؛ لِيُصبِحُوا بَعدَ أَن كَانُوا رُعَاةَ إِبِلٍ وَمُرَبِّي غَنَمٍ، قَادَةَ شُعُوبٍ وَمُصلِحِي أُمَمٍ، يَرسُمُونَ لَهَا مَبَادِئَهَا، وَيُخَطِّطُونَ لَهَا مَنَاهِجَهَا، وَيَسُنُّونَ لَهَا أَنظِمَتَهَا، وَيَضبِطُونَ سُلُوكَهَا وَيُهَذِّبُونَ أَخلاقَهَا.
نَعَم -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- إِنَّ الإِسلامَ وَحدَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لِلعَرَبِ رِسَالَةً يُقَدِّمُونَهَا لِلعَالَمِ، وَنِظَامًا يَحكُمُونَ بِهِ الحَيَاةَ، وَمَذهَبًا مُمَيَّزًا يَدفَعُونَ بِهِ البَشَرَ إِلى الأَمَامِ، لِيَسعَدُوا وَيَسلَمُوا وَيَرقَوا وَيَغنَمُوا، وَهُمُ اليَومَ وَغَدًا وَبَعدَ غَدٍ، لَيسَ لَهُم رِسَالَةٌ يَتَعَرَّفُونَ بِهَا إِلى العَالَمِ خَيرًا مِنَ الإِسلامِ، فَإِمَّا أَن يَحمِلُوهُ مُعتَزِّينَ بِهِ فَتَعرِفَهُمُ البَشَرِيَّةُ وَتَرفَعَهُم، وَإِمَّا أَن يَتَخَاذَلُوا فَيَعُودُوا هَمَلاً كَمَا كَانُوا، لا يُعرَفُونَ وَلا يُعتَرَفُ بِهِم.
وَلا يَغتَرَّنَّ مُغتَرٌّ بِمَا قَدَّمَتهُ أُمَمُ الأَرضِ غَيرُ المُسلِمَةِ مِن عُلُومٍ دُنيَوِيَّةٍ، وَمَا وَصَلَت إِلَيهِ مِن صِنَاعَاتٍ مُتَقَدِّمَةٍ، فَهِيَ لا تَعدُو أَن تَكُونَ فُتُوحَاتٍ في العِلمِ المَادِيِّ وَالإِنتَاجِ الصِّنَاعِيِّ وَالرَّخَاءِ الحَضَارِيِّ، وَعُلُومًا فَرعِيَّةً لِلحَيَاةِ الدُّنيَا في جَانِبِهَا الحَيَوَانِيِّ البَهِيمِيِّ، الَّذِي لا يَتَجَاوَزُ إِشبَاعَ حَاجَاتِ الجَسَدِ مِن أَكلٍ وَشُربٍ وَمَلبَسٍ وَمَنكَحٍ وَرَفَاهِيَةٍ، وَلَكِنَّهَا في المُقَابِلِ أَفسَدَتِ القُلُوبَ وَفَرَّغَتِ الأَروَاحَ، بِمَا قَدَّمَتهُ مِن فَلسَفَاتٍ صَنَعَتهَا أَفكَارٌ بَشَرِيَّةٌ نَاقِصَةٌ، فَأَشقَتِ العَالَمَ بِحُرُوبِ الإِبَادَةِ، وَأَهلَكَتهُ بِأَسلِحَةِ الدَّمَارِ الشَّامِلِ، وَأَضَلَّتهُ بِبَرَامِجِ اللَّهوِ وَاللَّعِبِ، وَأَخَّرَتهُ بِأَنظِمَةِ التَّجهِيلِ وَالإِفقَارِ، وَسَيَاسَاتِ التَّحرِيشِ وَالتَّفرِيقِ وَالتَّجوِيعِ.
وَإِنَّهُ مَهمَا انشَغَلَ المُسلِمُونَ كَغَيرِهِم في بَعضِ مَرَاحِلِ تَأرِيخِهِم بِالدُّنيَا، وَمَدُّوا أَعيُنَهُم إِلى مَا مُتِّعَ بِهِ غَيرُهُم مِن حُطَامِهَا وَزَهرَتِهَا، وَانصَرَفُوا عَنِ السَّعيِ لآخِرَتِهِم وَتَرَكُوا مَصدَرَ عِزَّتِهِم، فَانقَلَبَت بِذَلِكَ حَالُهُم مِن قُوَّةٍ إِلى ضَعفٍ، وَبُدِّلَ نَصرُهُم بِهَزِيمَةٍ وَتَقَدُّمُهُم بِتَقَهقُرٍ، وَذَاقُوا أَلَمَ الابتِعَادِ عَن مَوقِعِ القِيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ، فَإِنَّهُم لَن يَزَالُوا بِخَيرٍ مَا عَرَفُوا قَدرَ مِنَّةِ اللهِ عَلَيهِم بِالهِدَايَةِ، وَنِعمَتِهِ عَلَيهِم بِالإِيمَانِ وَالاستِقَامَةِ، فَهِيَ أَجَلُّ مُكتَسَبٍ وَأَسنَى مَفخَرٍ، وَأَنفَسُ مُقتَنًى وَأَغلَى رِبحٍ، وَلَهِيَ رَأسُ المَالِ الَّذِي تَصغُرُ في ظِلِّهِ كُلُّ خَسَارَةٍ دُنيَوِيَّةٍ مَهمَا كَبُرَت.
وَكُلُّ كَسرٍ فَإِنَّ الدِّينَ يَجبُرُهُ | وَمَا لِكَسرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبرَانُ |
فَاللهَ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُم القَيِّمِ، وَاحفَظُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم، فَوَاللهِ لا يَخشَى أَعدَاؤُكُم شَيئًا كَتَمَسُّكِكُم بِدِينِكُم (وَدَّ كَثِيرٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُم مِن بَعدِ إِيمَانِكُم كُفَّارًا حَسَدًا مِن عِندِ أَنفُسِهِم مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ)[البقرة:109]، وَأَبشِرُوا وَاستَبشِرُوا؛ فَإِنَّ الدِّينَ بَاقٍ وَمَنصُورٌ بِعِزِّ عَزِيزٍ وَذُلِّ ذَلِيلٍ (يُرِيدُونَ لِيُطفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفوَاهِهِم وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ)[الصف:8]، وَإِنَّهُ مَا تَوَلَّى قَومٌ وَانصَرَفُوا، إِلاَّ أَبدَلَ اللهُ بِهِم خَيرًا مِنهُم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَومَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[التوبة:54].
وَإِنَّ العَالَمَ اليَومَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- يَشهَدُ طُوفَانًا لِلشَّرِّ طَاغِيًا، وَزَحفًا لِلبَاطِلِ عَادِيًا، وَزَهوًا لَهُ وَانتِفَاشًا وَتَعَالِيًا، وَسَيَنجَرِفُ مَعَ هَذَا البَاطِلِ مَن يَنجَرِفُ، وَسَيَنحَرِفُ إِلَيهِ مَن يَنحَرِفُ، وَلَن يَنجُوَ إِلاَّ مَن عَصَمَهُ اللهُ وَاعتَصَمَ بِحَبلِهِ المَتِينِ، فَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً وَلا تَختَلِفُوا، اُثبُتُوا في طَرِيقِ الهُدَى، وَادعُوا إِلى سَبِيلِ رَبِّكُم بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ، اُنشُرُوا الحَقَّ وَأَعلُوهُ وَارفَعُوهُ، وَكُونُوا مِن أَنصَارِهِ وَادعَمُوهُ وَادفَعُوهُ، جَاهِدُوا بِأَلسِنَتِكُم وَأَموَالِكُم، أَصلِحُوا أَنفُسَكُم وَأُسَرَكُم وَأَبنَاءَكُم، وَكُونُوا قُدوَاتٍ حَسَنَةً في الخَيرِ لأَجيَالِكُم، وَمُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهُوا عَنِ المُنكَرِ.
إِنَّكُم إِلى رَبِّكُم صَائِرُونَ، وَعَمَّا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ مَسؤُولُونَ "كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ"، وَلَيسَ ضَلالُ أَحَدٍ أَو تَهَاوُنُهُ كَائِنًا مَن كَانَ، بِمُسَوِّغٍ لِلتَّخَلِّي عَنِ العُبُودِيَّةِ الحَقَّةِ، وَالَّتي مِن أَجلِهَا خُلِقَ العِبَادُ، فـَ(كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت رَهِينَةٌ)[المدثر:38]، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى)[الإسراء:15]، وَلا طَاعَةَ لِمَخلُوقٍ في مَعصِيَةِ الخَالِقِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ)[التحريم:6]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ * وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ * وَإِذْ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ)[الأنفال:27-30].
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
الخطبة الثانية:
اللهُ أَكبَرُ كَبِيرًا، وَالحَمدُ للهِ كَثِيرًا، وَسُبحَانَ اللهِ بُكرَةً وَأَصِيلاً، الحَمدُ للهِ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ، وَلَهُ الشُّكرُ عَلَى مَا وَفَّقَ إِلَيهِ، نَعبُدُهُ وَحدَهُ وَنَتَوَكَّلَ عَلَيهِ، وَنَستَغفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيهِ.
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِالحَقِّ وَعَضُّوا عَلَيهِ بِالنَّوَاجِذِ، وَاعلَمُوا أَنَّ الجَاهِلِيَّةَ هِيَ الجَاهِلِيَّةُ، قَد يَختَلِفُ زَمَانُهَا وَمَكَانُهَا، وَيَكُونُ لِكُلِّ صُورَةٍ مِنهَا أَرجَاسُهَا وَأَدنَاسُهَا، وَلَكِنَّ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ وَلا رَيبَ، أَنَّهُ حَيثُمَا خَلَتِ القُلُوبُ مِن عَقِيدَةٍ إِلَهِيَّةٍ تَحكُمُ التَّصَوُّرَاتِ، وَمِن شَرِيعَةٍ مُنبَثِقَةٍ مِن هَذِهِ العَقِيدَةِ تَحكُمُ الحَيَاةَ، وَاستِقَامَةٍ في العِبَادَاتِ وَالسُّلُوكِ وَالعَادَاتِ، فَلَيسَ إِلاَّ الجَاهِلِيَّةُ في صُورَةٍ مِن صُوَرِهَا الكَثِيرَةِ، وَالجَاهِلِيَّةُ الَّتي يَتَمَرَّغُ الكُفَّارُ اليَومَ في وَحَلِهَا، لا تَختَلِفُ في طَبِيعَتِهَا عَنِ الجَاهِلِيَّةِ القَدِيمَةِ، وَحَضَارَةُ اليَومِ الَّتي اغتَرَّ بِهَا بَعضُ المَفتُونِينَ، وَيُرِيدُونَ تَقلِيدَهَا في كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، هِيَ الَّتي أَشعَلَتِ الحُرُوبَ، وَأَفقَرَتِ الشُّعُوبَ، وَاستَعبَدَتِ النِّسَاءَ في مَعَارِضِ الأَزيَاءِ، وَأَهَانَتهُنَّ في حَفَلاتِ الرَّقصِ وَالغِنَاءِ، وَتَاجَرَت بِهِنَّ في مُسَابَقَاتِ الجَمَالِ وَحَانَاتِ الزِّنَا وَالبَغَاءِ، وَهِيَ الَّتي أَوقَدَت سُعَارَ النُّفُوسِ لِحِيَازَةِ الدُّنيَا وَتَحصِيلِ المَالِ، في أَنظِمَةٍ رِبَوِيَّةٍ وَعَمَلِيَّاتِ نَصبٍ وَاحتِيَالٍ، إِلى جَانِبِ التَّدَهوُرِ الخُلُقِيِّ الَّذِي أَصبَحَ يُهَدِّدُ كُلَّ نَفسٍ، وَالانحِلالِ الاجتِمَاعِيِّ الَّذِي صَارَ يَغزُو كُلَّ أُسرَةٍ، وَالغَزوِ الإِعلامِيِّ المُوَجَّهِ لِهَدمِ كُلِّ بَيتٍ، وَالكَيدِ السِّيَاسِيِّ المَفتُولِ لِتَخرِيبِ كُلِّ نِظَامٍ وَإِسقَاطِ كُلِّ دَولَةٍ.
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَلْنَتَمَسَّكْ بِدِينِنَا في وَسَطِيَّةٍ وَاعتِدَالٍ، وَلْنَعلَمْ أَنَّ الوَسَطِيَّةَ الصَّحِيحَةَ لَيسَت مَا يُرِيدُ الزَّائِغُونَ اليَومَ أَن يَصرِفُوا الأُمَّةَ إِلَيهِ مِنَ تَسَاهُلٍ وَتَرَاخٍ وَتَهَاوُنٍ، أَو مَا يَعمَلُونَ بِخُبثٍ لِيَلبِسُوا عَلَى النَّاسِ بِهِ، حَيثُ يُوهِمُونَهُم أَنَّهُم بِتَمَسُّكِهِم بِالسُّنَّةِ وَإِيثَارِهِم حَيَاةَ السِّترِ وَالعَفَافِ مُتَشَدِّدُونَ.
وَالحَقُّ -أَيُّهَا الإِخوَةُ- أَنَّ الوَسَطِيَّةَ مُصطَلَحٌ شَرعِيٌّ، يُؤخَذُ مِن مَصدَرِهِ، وَيُعرَفُ بِمَا كَانَ عَلَيهِ مَن جَاءَ بِهِ، وَلَيسَت تَشَهِّيًّا لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ في قَدِيمٍ أَو حَدِيثٍ، لِيُفَسِّرَ بِهِ الدِّينَ عَلَى مِزَاجِهِ وَهَوَى نَفسِهِ، أَو مَركَبًا يَركَبُهُ مَن شَاءَ؛ لِيَزعُمَ أَنَّهُ عَلَيهِ وَإِن بَعُدَ عَنِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَرَكَهُمَا وَرَاءَهُ ظِهرِيًّا.
إِنَّ الوَسَطِيَّةَ هِيَ كُلُّ مَا جَاءَ في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا أُثِرَ عَن مُحَمَّدٍ وَأَصحَابِهِ وَتَابِعِيهِ، وَمَا كَانَ عَلَيهِ المُسلِمُونَ في مُجتَمَعَاتِهِم عَلَى مَرِّ السِّنِينَ، وَمَا كَانَ عَلَيهِ عُلَمَاؤُنَا الأَبرَارُ وَدُعَاتُنَا الأَطهَارُ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "تَرَكتُ فِيكُم شَيئَينِ لَن تَضِلُّوا بَعدِي مَا تَمَسَّكتُم بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَن يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوضَ"(أَخرَجَهُ مَالِكٌ مُرسَلاً وَالحَاكِمُ مُسنَدًا وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم-: "إِنَّهُ مَن يَعِشْ مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيكُم بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّكُم في يَومِ عَيدٍ سَعِيدٍ، فَعُودُوا إِلى اللهِ وَتُوبُوا إِلَيهِ، وَتَوِّجُوا اجتِمَاعَ الأَجسَادِ بِاجتِمَاعِ القُلُوبِ، أَفشُوا السَّلامَ بَينَكُم وَتَصَافَحُوا، وَلِينُوا وَتَوَاضَعُوا وَتَسَامَحُوا، وَصِلُوا أَرحَامَكُم وَوَاصِلُوا جِيرَانَكُم، وَبُثُّوا الفَرَحَ فِيمَن حَولَكُم، وَارسُمُوا البَسمَةَ عَلَى الوُجُوهِ وَالأَفوَاهِ، وَأَدخِلُوا السُّرُورَ عَلَى الأَفئِدَةِ وَطَيِّبُوا القُلُوبَ، أَلا فَإِنَّ الدُّنيَا مُدبِرَةٌ وَالآخِرَةَ مُقبِلَةٌ، وَالأَعمَارَ مُنقَضِيَةٌ وَالآجَالَ مَحدُودَةٌ، فَتَابِعُوا الحَسَنَاتِ وَحَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَصُومُوا سِتًّا مِن شَوَّالٍ، فَإِنَّ مَن صَامَ رَمَضَانَ ثم أَتبَعَهُ بِسِتٍّ مِنَ شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهرَ.
وَأَمَّا أَنتُنَّ يَا مَعشَرَ النِّسَاءِ، فَأَخَصُّ وَصِيَّةٍ لَكُنَّ في زَمَانِنَا بَعدَ الوَصِيَّةِ بِأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الخَمسِ وَطَاعَةِ الأَزوَاجِ، أَن تَجتَنِبنَ الخِصَامَ وَاللِّجَاجَ، وَأَن تَحذَرنَ التَّبَرُّجَ وَالسُّفُورَ، وَالانقِيَادَ لِدُعَاةِ الفِسقِ وَالفُجُورِ، وَأَن تَلزَمنَ بُيُوتَكُنَّ ؛ فَإِنَّ خُرُوجَكُنَّ مِنهَا فِتنَةٌ لَكُنَّ وَبِكُنَّ، وَقَد قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَا تَرَكتُ بَعدِي فِتنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ"(رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ)، وَعِندَ مُسلِمٍ: "إِنَّ الدُّنيَا حُلوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُستَخلِفُكُم فِيهَا فَيَنظُرُ كَيفَ تَعمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتنَةِ بَني إِسرَائِيلَ كَانَت في النِّسَاءِ".
وَعَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِيَّاكُم وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ"؛ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيتَ الحَموَ؟ قَالَ: "الحَموُ المَوتُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لا تَمنَعُوا نِسَاءَكُمُ المَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيرٌ لَهُنَّ"(رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ). فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الحَالَ في البَيتِ وَمَعَ الحَموِ وَهُوَ قَرِيبُ الزَّوجِ، وَإِذَا كَانَتِ الصَّلاةُ في البُيُوتِ خَيرًا مِنهَا في المَسَاجِدِ، فَكَيفَ بِالخُرُوجِ لِغَيرِهَا مِن أُمُورِ الدُّنيَا؟! وَكَيفَ بِالاختِلاطِ بِالرِّجَالِ الأَجَانِبِ في الأَسوَاقِ وَالمَكَاتِبِ وَالمُؤَسَّسَاتِ وَأَمَاكِنِ العَمَلِ؟!
فَاللهَ اللهَ يَا إِمَاءَ اللهِ، اِلزَمْنَ بُيُوتَكُنَّ فَإِنَّهَا سِترُكُنَّ، وَفِيهَا تَصنَعْنَ الرِّجَالَ وَهِيَ أَعظَمُ مُهِمَّاتِكُنَّ، وَمِنهَا تُخَرِّجْنَ الأَجيَالَ وَهَذِهِ هِيَ رِسَالَتُكُنَّ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَكُنَّ بِالقَرَارِ في البُيُوتِ، وَفي طَاعَتِهِ الفَلاحُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولى)[الأحزاب:33]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:71].