القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
إن الرجاء كلمة تأخذ بشغاف القلوب، وتستولي على النفوس، فالرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى المحبوب، وهو قرب القلب من ملاطفة الربّ، وهو رؤية الجلال بعين الجمال، وهو الاستبشار بجود الله -سبحانه وتعالى- والارتياح لمطالعة كرمه -عز وجل-، إنه الثقة بموعود الله تعالى، ولا رجاء إلا بعمل صالح، وأما الرجاء مع الكسل عن الطاعات والإسراف في المحرمات فهو التمني والغرور ..
الحمد لله الغني الحميد، الرحيم الكريم؛ يجود على عباده بالأرزاق والخيرات، ويفتح لهم أبواب المغفرة والرحمات، خزائنه لا تنفد، وعطاياه لا تنقطع، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كم له في هذه الليالي الكريمة من هبات ونفحات!! يخص بها رواد المساجد المتهجدين، وأهل القرآن والمعتكفين.
وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله؛ كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، ولازم الاعتكاف فيها؛ التماسًا لليلة القدر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعلّقوا قلوبكم به، وأكثروا من دعائه، وتقربوا إليه بصالح الأعمال؛ فإنكم تعيشون زمنًا تكثر فيه هبات الله تعالى، وتتنزل رحماته، فسابقوا إلى عطايا ربّكم في المساجد، والتمسوها في ثلث الليل الآخر، وطهروا ظواهركم وبواطنكم؛ فإنكم في ليلكم بحضرة ملك الملوك، تقفون أمامه وهو سبحانه بينكم وبين قبلتكم، تناجونه بقراءتكم ودعائكم، ولا يحول بينكم وبين الفوز بجوائزه سبحانه إلا القبول، فتعلقوا ببابه، وخذوا بأسبابه، وألحّوا في دعائه؛ فإن الفوز فوز أبدي لا يعدله فوز دنيوي مهما كان: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185].
أيها الناس: هذه الليالي المباركات يصدق عليها أن تسمى ليالي الرجاء؛ لما يرجوه العباد من المغفرة والرحمة والعتق من النار، ولما يرجونه من إدراك ليلة القدر وقيامها إيمانًا واحتسابًا، فيكون قيام ليلة خيرًا من قيام ألف شهر.
إنه الرجاء في موعود الله تعالى، الذي تنزل به القرآن الكريم، وفصله النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث عدة عن العشر المباركة وعن ليلة القدر، وعد بأجور عظيمة لا تخطر على بال في ليال معدودة، فلا يرجوها إلا مؤمن، ولا يحرم منها إلا خاسر.
إن الرجاء كلمة تأخذ بشغاف القلوب، وتستولي على النفوس، فالرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى المحبوب، وهو قرب القلب من ملاطفة الربّ، وهو رؤية الجلال بعين الجمال، وهو الاستبشار بجود الله -سبحانه وتعالى- والارتياح لمطالعة كرمه -عز وجل-، إنه الثقة بموعود الله تعالى، ولا رجاء إلا بعمل صالح، وأما الرجاء مع الكسل عن الطاعات والإسراف في المحرمات فهو التمني والغرور، ويوم القيامة يقال لأصحابه: (وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [الحديد:14]، قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-: "هو أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة".
إن أهل الرجاء أهل إخبات وعبادة، يتفقدون قلوبهم، ويزكون بالصالحات نفوسهم، ويرابطون على طاعة ربهم، تطرب قلوبهم بالقرآن، وتقشعر جلودهم من الخشية، وتدمع أعينهم من الخشوع، يلحظون نعم الله تعالى عليهم في كل أمورهم، ويرون تقصيرهم في حقِّه مهما عملوا، فالشكر ديدنهم، والاستغفار قرينهم، لا تفتر ألسنتهم عن الشكر والذكر.
سئل أحمد بن عاصم الأنطاكي -رحمه الله تعالى-: "ما علامة الرجاء في العبد؟! قال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم الشكر، راجيًا لتمام النعمة من الله تعالى عليه في الدنيا، وتمام عفوه في الآخرة".
وقال شاه الكرماني -رحمه الله تعالى-: "علامة الرجاء حسن الطاعة".
وتأملوا -رحمكم الله تعالى- وصف الله تعالى للصحابة -رضي الله عنهم- لما كانوا أهل رجاء صادق، صدّقوه بأقوالهم وأفعالهم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:218].
قال قتادة -رحمه الله تعالى-: "هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله تعالى أهل رجاء كما تسمعون، وإنه من رجا طلب، ومن خاف هرب".
وفي رجاء المتهجدين يقول الله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر:9]، وفي دعائهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة:16]، ففي تهجدهم رجاء، وفي دعائهم رجاء، ولم يتعلقوا بالرجاء بلا عمل، ولا عملوا بلا رجاء.
وأهل الرجاء قد علقوا قلوبهم بالله تعالى، واعتمدوا عليه في تحقيق ما يريدون، ورفع ما يشتكون، ودفع ما يخافون، إنهم يرجون الله تعالى في السراء والضراء، وفي كل أحوالهم وشؤونهم الدينية والدنيوية والأخروية.
إن رجاءهم بربهم يملأ قلوبهم، ولا يتزحزح عنها ولو تأخر ما يرجون، وتخلف ما يطلبون، ووقع ما يكرهون؛ لأن ثقتهم بالله تعالى أعظم من ثقتهم بالخلق؛ ولأن تصديقهم لوعده أكبر في نفوسهم مما يرونه مخالفًا لما يرجون.
تأملوا معي رجاء يعقوب في يوسف -عليهما السلام-، وقد فقده صبيًّا يغلب عليه الهلاك، ثم كف بصره من البكاء حزنًا عليه، وما انفك لحظةً عن الرجاء بالله تعالى في لقياه، حتى عاتبه بنوه فقالوا: (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ) [يوسف:85]، فكان جوابه جواب الراجي في الله تعالى ما لا يرجوه من الخلق: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [يوسف:86].
ما الذي يعلمه من الله وهم لا يعلمونه؟! إنه يعلم من لطف الله تعالى ورأفته ورحمته بعباده ما أوجب حسن ظنّه به، وقوة رجائه فيه، ثم تأملوا دعوته لبنيه أن ينبذوا اليأس، ويملؤوا قلوبهم بالرجاء وحسن الظن بالله تعالى: (يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف:87]، فلما بشر به: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [يوسف:96].
إنه لرجاء عظيم بالله تعالى، كوفئ عليه يعقوب في الدنيا بلقيا ولده، وعودة بصره، واجتماع شمله بأحبته، وإزالة ما في قلوب بعضهم على بعض، مع ما نالوا من عزّ الدنيا ورفعتها برفعة يوسف -عليه السلام-، وأجر الآخرة أكبر وأبقى.
فما أحوجنا في ليالي الرجاء إلى رجاء كرجاء يعقوب -عليه السلام-.
إن الواحد منا لو رجا لقيا أكبر ملوك الدنيا، ومجالسته لوحده، ومناجاته بمفرده، ونيل أعظم جوائزه؛ لهجر الطعام والنوم من شدة الفرح؛ ولحسب الأيّام والدقائق يترقب موعد مجالسة الملك ومناجاته، ونحن في هذه الليالي المباركات قد وعدنا ربنا بمناجاة خاصة، ليست كمناجاته في سائر العام، وجوائزها ليست مثل جوائزها في سائر الأيام.
إننا نرجو من ربنا سبحانه أن يمنحنا بركة هذه الليالي المباركة، بركة صيام نهارها، وبركة قيامها، وبركة قيام ليلة القدر؛ لأن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد أخبرنا أن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، وأن من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، وأن من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، وأن لله تعالى عتقاء من النار في كل ليلة من رمضان، فكيف بعشره الفاضلة؟!
كما أخبرنا -صلى الله عليه وسلم- أن ربّنا -جلّ في علاه- ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: "من يدعوني فأستجيب له؟! من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفر له؟!". فكيف بليالٍ قد خبئت فيها أفضل ليلة في العام كله؟!
إنّ هذا الكرم العظيم من ربنا -سبحانه وتعالى- في شهر الجود والعطاء ليوجب امتلاء قلوبنا رجاءً فيه -عزّ وجل-، فتهجدوا وأنتم ترجونه، واقرؤوا وأنتم ترجونه واستغفروه وأنتم ترجونه، واسألوه وأنتم ترجونه، وادعوه وأنتم ترجونه؛ فإنكم تعاملون غنيًّا كريمًا برًّا رحيمًا، هو سبحانه أرحم بكم من أنفسكم: (مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2]
اللهم علق قلوبنا بك، اللهم أعنا على ما يرضيك، وجنبنا ما يسخطك، اللهم اقبل عملنا، واغفر ذنبنا، وتجاوز عن تقصيرنا؛ فنحن عبيدك وأنت ربنا، لا نرجو سواك، ولا نعبد إلا إياك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واملؤوا قلوبكم حسن ظن به، ورجاءً لرحمته، وخوفًا من عذابه: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110].
أيها المسلمون: لنحسن ختام هذا الشهر الكريم، فلعل منا من لا يدركه من قابل، لنستثمر ما بقي من لياليه، ولنكثر من الاستغفار في ختامه، ولنلحّ على الله -عز وجل- نسأله القبول.
ألا وإن من حسن ختام الشهر أداء زكاة الفطر؛ لترقّع ما تخرق من صيامنا، وتنفع المساكين من إخواننا، وهي فرض علينا؛ زكاةً لأبداننا، كما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فرض رسول الله –صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات". رواه أبو داود.
ومقدارها صاع من طعام، تؤدى قبل صلاة العيد، ويجوز تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين؛ كما فعل الصحابة -رضي الله عنهم-، وروى ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "فرض رسول الله –صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة". رواه الشيخان.
وفي رواية للبخاري قال نافع -رحمه الله تعالى-: "فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إن كان يعطي عن بَنِيَّ، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين".
وصلوا وسلموا على نبيكم...