العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - أسماء الله |
أن يتعهد الإنسان باطنه وسره بكل جمال, فأفضل ما ينبغي للمؤمن أن يتفقده قلبه, فليس الجمال الذي يمدح صاحبه حقا جمال الشكل والصورة, وإنما جمال الأخلاق ونقاء السريرة, وطيب المعشر, قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "والله، لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك! ورأيت من يلبس...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أيها المؤمنون: فطر الله الناس على حب الجمال, والتطلع إلى الكمال, وما كل في هذا الكون من مظاهر الجمال والجلال والكمال هي من آثار الحق -سبحانه وتعالى-, فكل جمال في الكون يرتد إلى جماله, وكل كمال في الخلق يرتد إلى كماله, سبحانه له الأسماء الله الحسنى والصفات العلى, وكل كمال غير كماله نقص, فلا كامل إلا هو -سبحانه-.
أيها الموحدون: إن من أسماء الله -جل وعلا- (الجميل)، وقد ورد في السنة في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ". قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً؟!. قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ".
وجمال الله -سبحانه وتعالى- يشمل جمال الذات والصفات والأفعال, ويكفي في بيان كمال جماله -سبحانه- ما جاء عن النبي –عليه الصلاة والسلام: في وصف ربه -سبحانه- بقوله: "حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ -أي: أنواره- مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" (رواه مسلم).
قال ابن القيم -رحمه الله- في نونيته:
وهو الجميل على الحقيقة كيف لا | وجمال سائر هذه الأكوان |
مـن بـعض آثار الجميـل فربـهـا | أولى وأجدر عند ذي العرفان |
فـجـمـالـه بالـذات والأوصـاف | والأفعال والأسماء بالبرهـان |
قال الشيخ الهراس -رحمه الله- في (شرح النونية): "وأما الجميل فهو اسم له -سبحانه- من الجمال، وهو الحسن الكثير، والثابت له -سبحانه- من هذا الوصف هو الجمال المطلق، الذي هو الجمال على الحقيقة؛ فإن جمال هذه الموجودات هو من بعض آثار جماله، فيكون هو -سبحانه- أولى بذلك الوصف من كل جميل؛ فإن واهب الجمال للموجودات لا بد أن يكون بالغا من هذا الوصف أعلى الغايات, وهو -سبحانه- الجميل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
أما جمال الذات: فهو ما لا يمكن لمخلوق أن يعبر عن شيء منه أو يبلغ بعض كنهه, وحسبك أن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم وأفانين اللذات والسرور التي لا يقدر قدرها، إذا رأوا ربهم, وتمتعوا بجماله؛ نسوا كل ما هم فيه، واضمحل عندهم هذا النعيم, وودوا لو تدوم لهم هذه الحال، ولم يكن شيء أحب إليهم من الاستغراق في شهود هذا الجمال، واكتسبوا من جماله ونوره -سبحانه- جمالا إلى جمالهم، وبقوا في شوق دائم إلى رؤيته؛ حتى إنهم يفرحون بيوم المزيد فرحا تكاد تطير له القلوب.
وأما جمال الأسماء: فإنها كلها حسنى, بل هي أحسن الأسماء وأجملها على الإطلاق؛ فكلها دالة على كمال الحمد والمجد والجمال والجلال.
وأما جمال الصفات: فإن صفاته كلها صفات كمال ومجد, ونعوت ثناء وحمد, بل هي أوسع الصفات وأعمها, وأكملها آثارا وتعلقات.
وأما جمال الأفعال: فإنها دائرة بين أفعال البر والإحسان التي يحمد عليها ويشكر, وبين أفعال العدل التي يحمد عليها لموافقتها للحكمة والحمد؛ فليس في أفعاله عبث ولا سفه ولا جور ولا ظلم, بل كلها خير ورحمة ورشد وهدى وعدل وحكمة".
أيها الموحدون : والأكوان محتوية على أصناف الجمال، وجمالها هو من الله -تعالى-، فهو الذي وهبها الجمال وأعطاها الحُسن، فهو أولى منها به, فكل جمال في الدنيا والآخرة، باطني وظاهري، خصوصاً ما يعطيه المولى لأهل الجنة من الجمال المفرط في رجالهم ونسائهم، كما في الحديث: "لو أنَّ رجلا من أهل الجنة اطَّلعَ ، فبدا سِوارُه ، لَطَمسَ ضوءَ الشمس ، كما تطْمِس الشمسُ ضوْءَ النُّجوم" (رواه الترمذي)، أليس الذي كساهم ذلك الجمال ومنّ عليهم بذلك الحسن والكمال أحق منهم بالجمال؟ سبحان الجليل الجميل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
وكيف يعبِّر أحدٌ عن جماله -سبحانه- وقد قال أعلم الخلق به -صلوات الله وسلامه عليه-: "لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفسِكَ" (رواه مسلم).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي تفرّد بكلّ كمال، واختصّ بأبهى جمال، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، كريم السجايا وشريف الخصال، -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل- والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد: فإن الإيمان باسم الله الجميل له آثار إيمانية على المؤمن, منها:
أن الله -تعالى- هو مُجْمِّلُ من شاء من خلقه، واهب الجمال والحُسن لمن شاء، فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وأجمل صورة، قال -تعالى-: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون: 14].
والناس متفاوتون في هذا الجمال الدنيوي، فقد أُعطي يوسف -عليه السلام- شطر الحسن، وأُعطي نبينا -صلى الله عليه وسلم- من ذلك حظاً وافراً، فعن الْبَرَاءَ قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُمْ خَلْقًا وَخُلُقًا". ومن هنا فلا ينبغي للمؤمن أن يعترض على ما وهبه الله من هيئةٍ وصورة؛ لأن الجمال الحقيقي هو جمال الباطن, وكل جمالٍ منتهى إلى زوال وفناء, قال -تعالى-: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 15، 16].
ومن الآثار الإيمانية لاسم الله الجميل: أن الله أمر بملازمة كل خلُق فاضل جميل، فليتحلَ المؤمن بها, ففي موضع الصبر قال -سبحانه-: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) [المعارج:5], وفي الصفح يأمر الله -تعالى- نبيه: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85], وحتى في الأمور التي نظن فيها الحزم والشدة, يقول -تعالى-: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) [المزمل: 10], وهو الهجر الذي لا عتاب معه, أو لا أذية فيه, وفي الفراق بين الزوجين يأتي الأمر الإلهي بالإحسان للمرأة حتى حال مفارقتها: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) [الأحزاب: 49]؛ أي: طلاقاً لا أذى فيه ولا ضرر على المرأة.
ليس الجمال بأثواب تزيننا | إن الجمال جمال العلم والأدب |
ومن الآثار الإيمانية لاسم الله الجميل: أن يتعهد الإنسان باطنه وسره بكل جمال, فأفضل ما ينبغي للمؤمن أن يتفقده قلبه, فليس الجمال الذي يمدح صاحبه حقا جمال الشكل والصورة, وإنما جمال الأخلاق ونقاء السريرة, وطيب المعشر, قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "والله، لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك! ورأيت من يلبس فاخر الثياب، وليس له كبير نفل، ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب، فوجدته السريرة. كما روي عن أنس بن مالك: أنه لم يكن له كبير عمل من صلاة وصوم؛ وإنما كانت له سريرة.
فمن أصلح سريرته، فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر" (صيد الخاطر).
لَيْسَ الجَمالُ بِمِئْزَرٍ | فاعْلَمْ، وإِنْ رُدِّيتَ بُرْدَا |
إِنَّ الجَمالَ مَعادِنٌ | ومَناقِبٌ أَوْرَثْنَ حمدَا |
ومن الآثار الإيمانية: أن الله يحب من عبده التجمل المشروع في غير إسراف ولا بطر ولا كبر, قال -تعالى-: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف: 31، 32], قال اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ, إِنَّ اللَّهَ -تعالى- يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ" (أحمد).
ومن الآثار الإيمانية: الشوق إلى الجنة وما فيها من نعيم وجمال, فكل نعيم وجمال في الدنيا لا يساوي شيئاً عند نعيم وجمال الآخرة, وكيف لا تشتاق نفسٌ إليها وفيها كل جمال بلغ الغاية في الحسن والجمال؟! وقد زينها الله وهيئها بكل جميلٍ لأهل طاعته, وأعظم جمالٍ فيها رؤية الجميل -سبحانه-, ولذة النظر إليه, (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23].
فاسألوا الله الجميل النظر إلى وجهه -تعالى- ، فرسول الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو الله ويقول: "وأسألك لذَة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك" (أحمد والنسائي).
فحيَّ على جنات عدن فإنها | منازلنا الأولى وفيها المخيم |
ومن الآثار الإيمانية: أن جمال الآخرة لا يدرك إلا بالصبر عما حرم الله من جمال الدنيا, فعلى المسلم أن يغض بصره عما حرم الله عليه, وعلى المسلمة فوق ذلك أن لا تتباهى بجمالها أمام الناس؛ فتظهر ما يجب عليها ستره من جمال, قال -تعالى-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور: 30، 31].
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ حيث أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).