المهيمن
كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
يريد منك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تقوم بعبودية الاحتساب لله تعالى في رمضان، وأن تتربى على عبودية الاحتساب بعد رمضان، وفي حياتك كلها، فهذا هو سرّ عبودية الصوم الأعظم، وما أعظمه من سرّ! ولذلك أبَان الله تعالى عن هذا السّر، وأقر هذه العبودية الجليلة، عبودية الاحتساب، عبودية الإخلاص ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
أيها المؤمنون، أيها الصائمون: "إِيمَاناً واحتسابا"، لعلَّ تلك الجملة لا تكاد تفارق أيام وليالي وساعات وأطراف رمضان إلا وتتردد في جنباته، إلا ويُسمع لها تالٍ في مسجد، أو قارئ في كتاب، أو متحدث في إذاعة وتلفاز.
"إيمانا واحتسابا" أصبحت عنوان كتاب رمضان، أصبحت عَلَماً على شهر رمضان، حتى كأنها لم تُقَل إلا فيه، وكأنها لم تنزل إلا له.
"إيمانا واحتسابا"، جملة عظيمة القدر، جليلة الفائدة، أرادها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تكون أحد معالم روايات ودروس وأحاديث وأعمال رمضان.
"إيمانا واحتسابا" أرادها الله تعالى أن تكون السر الكبير لرمضان، أرادها ربنا سبحانه أن تكون الدرس الكبير الذي نتربى عليه في رمضان.
"إيمانا واحتسابا" يكررها رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أحاديث رمضانية صحيحة وعجيبة، لا يكررها زيادة في الكلام، ولا يقولها تطويلا في المواعظ، بل قالها رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ليبني من خلالها صرح الصالحات والطاعات، على أساس الاحتساب، ولا غير الاحتساب.
الاحتساب لله تعالى ولا لشيء غير الله سبحانه، فإذا به -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في الصحيح فيما يرويه لنا أبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
قال في الحديث الأول: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". وقال في الحديث الثاني: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وقال في الحديث الثالث: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
ما معنى إيمانا؟ قال شُرَّاحُ الحديث: أي اعتقادا منك -أيها المؤمن- أن الله تعالى هو الذي فرض ذلك وأمَر به.
وأما احتسابا، موضوعنا وفائدتنا الكبرى، فمعناها: إخلاصا لله تعالى، بأن يبتغي المؤمن بعمله هذا وجه الله تعالى وحده، وطلبا للأجر وللثواب من الله وحده، لا يقصد رؤية الناس، ولا ممدحتهم، ولا رجاء ثنائهم، بل يعمل عمله هذا طلبا لرضاء الله دون سواه، لا يقصد بعمله إلا ما عند الخالق الدائم لا ما عند المخلوق الفاني.
أيها الصائمون: "إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا" يقولها رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ويكررها تأكيدا وتعليما وتربية: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا"، "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا"، "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا".
يريد الرسول -صلى الله عليه وسلم- منك أيها المؤمن أن تكون محتسباً لأعمالك الرمضانية في النهار وفي الليل، في أول الشهر وفي آخره، تبتغي بها وجه الله تعالى وحده.
يريد منك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تقوم بعبودية الاحتساب لله تعالى في رمضان، وأن تتربى على عبودية الاحتساب بعد رمضان، وفي حياتك كلها، فهذا هو سرّ عبودية الصوم الأعظم، وما أعظمه من سرّ! ولذلك أبَان الله تعالى عن هذا السّر، وأقر هذه العبودية الجليلة، عبودية الاحتساب، عبودية الإخلاص.
أخرج مسلم في صحيحة عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِى".
تأملوا ماذا يقول ربنا! وماذا يشترط سبحانه! "يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِى"، "من أجلي"، يقول ربنا سبحانه: الصوم الذي أعظمه وأجزي به صاحبه الصائم هو ذلك الذي يصوم فيترك طعامه ويترك شهوته لأجل الله تعالى فقط، احتسابا له سبحانه، لا يبتغي من وراء ذلك إلا الأجر من الله تعالى، فمَن كان محتسبا في صيامه فلا يصوم نهار رمضان إلا لأجل الله، ومن صام لأجل الله صبر وتحمَّل، ولا يقوم رمضان إلا لأجل الله، ومن قام لأجل الله تواضع وصبر وأدام القيام.
عباد الله: مَن تربَّى على عبودية الاحتساب، احتسب جوعه وعطشه في الحر الشديد وهو صائم لوجه الله، واحتسب تعبه وسهره وقيامه وسحوره لوجه الله.
مَن تربَّى على عبودية الاحتساب، احتسب سائر عباداته الصغيرة والكبيرة في رمضان، وفي غير رمضان لوجه الله، ذلك ما أراده منا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث يقول -كما في البخاري-: "مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إيماناً وَاحْتِسَاباً، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيُفرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإنَّهُ يَرْجعُ مِنَ الأَجْرِ بِقيراطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أنْ تُدْفَنَ، فَإنَّهُ يَرْجِعُ بِقيرَاطٍ".
تأمل معي: "مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إيماناً وَاحْتِسَاباً"، فيريدك -صلى الله عليه وسلم- أن تحتسب الأجر من الله في كل عملك، حتى حينما تتبع جنازة مسلم. وكذلك في كل عبادة، صغيرة كانت أو كبيرة احتسب فيها لله تعالى.
من تربى على عبودية الاحتساب، احتسب في رمضان وفي غير رمضان صبره على مرارة الدنيا، وقساوة الناس، واحتسب عفوه وحلمه وتجاوزه عمَّن أساء إليه وظلمه، في رمضان وفي غير رمضان، احتسب كل ذلك لوجه الله، فتهون عليه الدنيا ومشاكلها وشدتها.
لقد قال سبحانه في وصف هؤلاء المحتسبين لأجله سبحانه: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) [الرعد:22]، وفي الحديث الصحيح، كما في مسند احمد عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا تجرَّعَ عبدٌ جُرعةً أفضل عند الله -عزَّ و جل- من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى".
عباد الله: العبد الذي يتربى على عبودية الاحتساب، يحتسب ما ينفقه من مال حلال في أبواب الخير كلها، في رمضان وفي غير رمضان، فيطلب الأجر من الله تعالى، ولا يبتغي ألا وجه الله، ففيما ينفق من مال ليطعم الجائعين من أقارب أو أباعد يحتسب، قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) [الإنسان:9-10].
(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ)، ولذلك كانت الصِّدِّيقَةُ عائشةُ -رضي الله تعالى- عنها تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الذي أرسلته ماذا قالوا؟ فإذا ذكر دعاءً دعت لهم بمثله، لماذا تفعل ذلك؟ ليبقى لها ثواب الصدقة خالصاً عند الله -عز وجل-.
وفي الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لسعد: "إنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله -عز وجل- إلا أُجِرْتَ بها، حتى ما تجعل في فم امرأتك".
ويحتسب فيما ينفق من مال في أبواب الخير وعمل الصالحات، يحتسب ماله وعمله لله تعالى، ففي الحديث الصحيح عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا مِثْلَهُ فِى الْجَنَّةِ".
العبد الذي يتربى على عبودية الاحتساب، يحتسب دعوته وتدريسه ووعظه وإمامته وجهاده وقيامه بأمر الدين، في رمضان وفي غير رمضان، يحتسب ذلك لله تعالى وحده، يبتغي به ما عند الله تعالى، كما كانت حال الصحابة الذين تربّوا على عبودية الاحتساب وما عرفوا غيرها.
ففي الحديث الصحيح عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن خباب -رضي الله عنه- قال: "هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ -انظروا وتأملوا الاحتساب بدعوتهم يقول: نلتمس وجه الله- فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا(يجنيها)؛ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ".
وقد بين لنا ربنا -سبحانه- احتساب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لدعوتهم وهجرتهم، ونصرتهم لدين الله، بل وعباداتهم وطاعاتهم، وأن ذلك كله كان منهم احتسابا لله تعالى، وطلبا لما عنده جل جلاله.
فقال الله -عز وجل-: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر:8]، قال ابن كثير: أي: خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه.
وقال تعالى في احتسابهم أيضا: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) [الفتح:29].
نعم يا عباد الله، العبد الذي يتربى على عبودية الاحتساب يحتسب في رمضان وفي غير رمضان مواقفه الاجتماعية، وزياراته، وشفاعاته، وحلوله لمشاكل الناس، وبذله لوقته ولجاهه، يحتسب ذلك كله لله تعالى، فلا يبتغي به إلا وجه الله تعالى، قال ربنا -سبحانه-: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]، قال ابن كثير: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ)، أي: مخلصا في ذلك، محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل.
أيها المؤمنون الصائمون: ما جزاء المحتسبين، الراجين ما عند الله؟ ما ثمرات الاحتساب؟ أيها المؤمن، بالاحتساب لله تعالى وبابتغاء وجهه سبحانه تكون أيها العبد محط أنظار الله تعالى، ينظر الله إلى نيتك الخالصة، ينظر الله تعالى إلى قلبك الطاهر النقي الذي أقبل على الله، وينظر الله إلى عملك الذي عملته محتسبا مبتغيا وجهه سبحانه وتعالى، فعن أبي هريرة، كما في صحيح مسلم، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم -وأشار بأصابعه إلى صدره- وأعمالكم".
أيها المؤمن: بالاحتساب لله تعالى وبابتغاء وجهه سبحانه يتقبل الله عملك أيها العبد المخلص المحتسب، ويرفعك درجات، ويرفع مقامك، فكما في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عاد سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال له فيما قال: "إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ً ورفعة". وتأمل معي قوله: "تبتغي به وجه الله".
بل ويعظم الله الأجر ويكثره لكل عبد يعمل من الأعمال الخيرية والإنسانية المشروعة والمحبوبة إلى الله تعالى مبتغيا بها وجهه سبحانه، كما قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، وتأمل معي قوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ).
ووصف الله سبحانه هؤلاء العباد المحتسبين المخلصين الذين يرجون بأعمالهم ما عند الله سبحانه بأنهم من أهل الخير، وبأنهم مفلحون في الدنيا وفي الآخرة، فقال سبحانه: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الروم:38].
وبأنهم مَرْضِيُّونَ، وبأن الله عنهم من الراضين، كما في قوله سبحانه وتعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل:17-21].
ووعد الله تعالى العبد المحتسب والراجي بعمله ما عند الله فقط دون ممدحة من الناس أو صرف نظرهم إليه، وعدهم سبحانه بالخاتمة الحسنى إن هم داموا على ذلك، ورحلوا إليه سبحانه وهم راجون بأعمالهم وجهه الكريم، ورضوانه العظيم، فكما في الحديث الصحيح الذي يرويه حذيفة -رضي الله عنه- قال: أسندت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صدري فقال: "مَن قال لا إله إلا الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوما ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة".
أيها المؤمنون الصائمون: لقد بلغ من فضيلة الاحتساب ومن منزلة المحتسبين والمخلصين والذين لا يبتغون سوى مرضاة ربهم سبحانه أن الله تعالى أكرمهم فجعلهم سببا في تنزل النصر، ففي الحديث الصحيح، عن مصعب بن سعد عن أبيه -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم".
فهذه معالم وبركات عبودية الاحتساب وابتغاء ما عند الله، تلك العبودية التي هي السر العظيم لعبادة الصوم، والسر الأعظم لقوله -صلى الله عليه وسلم- "إيمانا واحتسابا".
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: يا عباد الله: أما أولئك الذين لا يعرفون عبودية الاحتساب في حياتهم، الذين لا يحتسبون بعملهم ما عند الله تعالى، ولا يرجون ثوابه، ولا يقصدون وجهه الكريم، وإنما يصنعون ما يصنعون تزلفا وطمعا في الوجاهة، وسعيا لشهرة وممدحة، وثناء قصير العمر، فإنهم بعيدون عن الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة، هم وأعمالهم.
فأعمالهم وأقوالهم وما قدموه مما لم يبتغوا به وجه الله مردود عليهم، وباطل ما كانوا يصنعون، كما قال سبحانه وتعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان:23]، قال الطبري: وقوله: (فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا): فجعلناه باطلا؛ لأنهم لم يعملوه لله، وإنما عملوه للشيطان.
ولا أجْرَ لهم ولا حسنات يعطونها على هذه الأعمال المشوبة غير الخالصة لله تعالى وحده، فعن أبي سعيد بن أبي فضالة، كما في الحديث الحسن، قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: مَن كان أشرك في عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".
وعن أبي أمامة، كما في الحديث الحسن، قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا شيء له" فأعادها ثلاث مرات، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا شيء له"، ثم قال: "إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، وابتغي وجهه".
وأما في الآخرة فما ينتظر هؤلاء الذين انحرفت مقاصدهم ونياتهم وما أخلصوا لله تعالى وما احتسبوا وما ابتغوا وجهه الكريم، ما ينتظرهم إلا الخزي والفضيحة، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- كما في الحديث الحسن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمـــَّع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة".
هؤلاء ما ينتظرهم إلا العذاب الأليم، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- كما في صحيح مسلم أن رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِىءٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ.
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ.
فهؤلاء فعلوا أعمالا مشروعة لا محرمة، ولكنها خلت من عبودية الاحتساب لوجه الله، فكبكبوا في النار على وجوههم. فرحماك رحماك يا ربي.
فأين مَن قال الله فيهم -من المحتسبين والمخلصين- مادحا ومُثْنِيَاً وواعدا: ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)؟ ممن قال فيهم -من المرائين وطلاب الوجاهة- ذامًا ومتوعدا: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان:23].
فاحتسِب يا عبد الله صيامك وقيامك وسائر أعمالك الطيبة في رمضان وفي غير رمضان، احتسبها واطلب أجرها من الله تعالى وحده، وإياكَ إياكَ أن تزِلَّ قدمُك فتطلب ما تحت أقدام الخلق من مطالب الدنيا الفانية! فاللهَ اللهَ في عبودية الاحتساب!.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا... يا رب العالمين.