العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | العقيدة - أركان الإيمان |
إن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هي قوام هذا الدين الذي لا يرتكز إلا عليه، وأسُّ الإسلام وأهم ركنٍ فيه، فلا إسلام لمن لم يقر بلسانه بكلمة التوحيد، ويعتقدها بقلبه، ويظهر أثر ذلك على جوارحه، فهي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
معاشر المسلمين: للكلمة في الإسلام مكانة عظيمة، ومنزلة لا يستهان به، وعليها رتب الشارع أحكاماً، وشرع تشريعات عظيمة؛ فكلمة تدخل صاحبها الإسلام، وكلمة تخرجه منه، وكلمة تنشأ أسراً تخرج أجيالاً، وكلمة تفك رباطا زوجيا مقدساً، كلمةٌ تبني وكلمة تهدم، كلمة قد تقتل، وكلمة قد تسبب في إحياء نفس.
وحديثنا اليوم عن أعظم كلمة على الإطلاق في الدين الإسلامي؛ بل في تاريخ البشرية وقيام الخليقة؛ إنها كلمة التوحيد، ولفظ الإفراد، وحروف العبودية، إنها لا إله إلا الله.
عباد الله: إن كلمة التوحيد لا إله إلا الله هي قوام هذا الدين؛ الذي لا يرتكز إلا عليه، وأسُّ الإسلام وأهم ركنٍ فيه؛ فلا إسلام لمن لم يقر بلسانه بكلمة التوحيد، ويعتقدها بقلبه، ويظهر أثر ذلك على جوارحه؛ فهي مدخل الإسلام، والفارق بين أهله وغيرهم، ومن أجلها نحيا ونموت، وفي سبيلها نقاتل ونجاهد، وإليها ندعو، وكل شعائر الإسلام سواها هي تبعٌ لها، ولا يقبل أي عمل ما لم يحقق صاحبه لا إله إلا الله.
إخوة الدين: إن كلمة التوحيد مبنية على ركنين اثنين، هما أساسه المتين، ودعامتاها الوحيدتان.:
الركن الأول: النفي وذلك في (لا إله)، وهو نفي لاستحقاق من سوى الله تعالى للعبادة كائنا من يكون؛ فلا أحد أبدا يستحق أن تصرف له أي تعبدٍ إطلاقاً؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا من دونهما.
والركن الثاني: الإثبات: وذلك في (إلا الله)، وهو إثبات لاستحقاق العبادة لله تعالى وحده؛ فهو وحده سبحانه من تصرف له العبادة حقا.
فركن النفي -أيها الأحبة- يبطل كل الشرك بأنواعه، ويوجب لزاما الكفر بكل ما يعبد من دون الله تعالى، وركن الإثبات: يثبت -بلا شك ولا مرية- أن المستحق للعبادة هو الله لا شريك له، ويوجب العمل بمقتضى ذلك، قال -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)؛ ففي هذه الآية ينفي إبراهيم استحقاق العبادة عن غير الله -سبحانه وتعالى- وذلك في قوله: (إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ)، ثم يثبت بعد ذلك استحقاقها لله تعالى وحده في قوله: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)، وقال -أيضا جل وعلا-: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فقوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) هو معنى الركن الأول، ركن النفي (لا إله)، وقوله -سبحانه وتعالى-: (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) هو معنى الركن الثاني، ركن الإثبات: (إلا الله)؛ فالمؤمن عندما يصدح بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فإنه بذلك يعلن أنَّه بريءٌ من الشرك والمشركين، وأنه ملتزم بعبادة الله وحده ومخلصاً له الدين؛ فإن قام بما التزمه فقد حقق الإسلام، وفاز بدار الخلد، وإلا فإن مجرد تحريك اللسان بها من غير أن يعمل بمدلولها وما تقتضيه لا يفيد المرء شيئاً فإنَّ أهل النفاق يظهرون القول بـ (لا إله إلا الله)، لكنهم لما لم يجعلوها عقيدة في قلوبهم صار جزاؤهم أنَّهم في الدرك الأسفل من النار.
أيها المؤمنون: لقد رتب الشارع الكريم على هذه الكلمة فضائل عظيمة تليق بعظمها، وثمارا يقتطفها من تمسك بها حق التمسك، فضائلُ يصعب حصرها، ويشق تعدادها لكن نذكر منها ما يناسب هذا المقام، وفي البعض إشارة إلى الكل، وما لا يدرك جميعه لا يترك التنبيه عنه؛ فمن فضائل هذه الكلمة العظيمة:
أنها أفضل وأعلى شعب الإيمان؛ فإنَّ للإيمان شعباً عديدة، لكن لا إله إلا الله هي الشعبة الأرفع والأعلى، عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (متفق عليه واللفظ لمسلم).
ومن فضائل هذه الكلمة: أنها سبب للخروج من النار، جاء في صحيح مسلم: "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع مؤذنا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله فقال -صلى الله عليه وسلم-: خرجتَ من النار"، بل ورد أنها تحرِّم من شهد بها على النار، فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله حرم الله عليه النار" (رواه مسلم)، وجاء في حديث الشفاعة "أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال ذرة من إيمان". (رواه الحاكم)؛ فمن دخل النار بسبب ذنوبه التي أوردته المهالك وكان من أصحاب (لا إله إلا الله) ستنفعه في ذلك اليوم، يوم لا ينفع مال ولا بنون.
كذلك من فضائل لا إله إلا الله: أنها سبب لدخول الجنة، والتمتع بما فيها من النعيم المقيم؛ فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق وأن النار حق أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية شاء".
تأمل -أيها الفاضل- هذه الثمرة العظيمة لكلمة التوحيد، دخولٌ للجنة -جعلنا الله من أهلها- من أي الأبواب الثمانية يشاء العبد الذي شهد بها موقنا بما تتضمنه وتعنيه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد النّبي الأمي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أيها المسلمون: ومن فضائل كلمة لا إله إلا الله: أنَّها أفضل ذِكرٍ ذُكِرَ الله به على الإطلاق، وهي أثقل عمل في الميزان يأتي به العبد يوم القيامة، ولا يعادل ثقلها عمل آخر؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن نوحاً عليه الصلاة والسلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله؛ فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعن في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كل حلقة مبهمة لفصمتهن لا إله إلا الله". (رواه أحمد).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً, أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: بلى إنَّ لك عندنا حسنة, وإنه لا ظلم عليك اليوم, فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله, فيقول: أحضر وزنك فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: فإنك لا تظلم, قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة, فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء". (رواه الترمذي وابن ماجه).
وكلمة التوحيد -أيها الأحبة- تفتح لها أبواب السماء، ولا يحجبها حجاب من دون الله -عز وجل-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "ما من عبد قال لا إله إلا الله مخلصا إلا فتحت لها أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش" (رواه الترمذي).
أيها المؤمنون: هذه بعض فضائل كلمة التوحيد، وشهادة الحق، ولكن هل ينال هذا الفضل العميم، ويقطف هذه الثمار الجليلة من قالها بلسانه فقط؟ كلا بل حتى يكون مخلصا في نطقها مستيقناً بها قلبه، ويبتغي بذلك وجه الله، واسمع دليل ذلك من أقوال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "من لقيتَ من وراءِ هذا الحائطَ يشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللَّهُ مستيقِنًا بها قلبُهُ فبشِّرْهُ بالجنَّة" (رواه مسلم).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- "أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بعثَه فقال اذهب فنادِ في النَّاسِ أنَّ من شَهدَ أن لا إلهَ إلَّا اللَّهُ موقنًا أو مخلصًا فلَه الجنَّة" (رواه ابن خزيمة).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما قال عبدٌ لا إلهَ إلَّا اللهُ قطُّ مخْلِصًا إلَّا فُتِحَتْ له أبوابُ السماءِ حتى تُفْضِيَ إلى العرشِ ما اجتَنَبَ الكبائرَ" (رواه الترمذي).
معاشر الإخوة: بعد أن عرفنا فضل هذه الكلمة العظيمة، وما ينتظر حاملها من الخير العظيم، ينبغي لنا أن يزيد تمسكنا بها، وأن نسعى جاهدين أن نحققها غاية التحقيق، وأن نبذل أقصى ما نستطيع؛ لنجعل هذه الكلمة هي نبراسنا الذي يضيء لنا طريق السير إلى الله، ومشعل النور في سبيل العبور لمرضاته، وذلك بأن نخلص له العبادة وحده، ونتبرأ عن كل ما سواه، وأن نفرده بالتعظيم والخشية والمحبة والرجاء، لا إله إلا هو سبحانه، هو حسبنا ونعم الوكيل.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].