الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والهموم -وإن كانت شعورا وليست مادة- إلا أنها أشدُّ أثرا من المغريات المادية الحسية، السَّكِينَةُ -عبادَ الله- جندٌ من جنود الله، التي خص بها أتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كُلًّا بحسب متابعته له، وهي سكينة إيمان تَقَرُّ في القلب، فتصد كل ريب وفَرَق وشك...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُ اللهِ ورسولُه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أما بعدُ: فإن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومَنْ شذَّ عنهم شذَّ في النار.
أيها المسلمون: لم يعرف العقلاء مُعَلِّمًا ولا مُرَبِّيًا يحمل كمالَ العقل، وكمالَ الشفقة وكمالَ الحكمة مثل رسولنا وحبيبنا وقدوتنا -صلوات الله وسلامه عليه-، فهو قدوة في سمته، وقدوة في حديثه، وقدوة في فعله، وقدوة في صمته، هو البحر من أي النواحي أتيتَه فَلُجَّتُهُ المعروفُ والبِرُّ ساحِلُه.
عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه دفَع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، فسمع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وراءه زجرًا شديدًا، وضربا وصوتا للإبل، فأشار بسوطه إليهم: "أيها الناس، عليكم بالسَّكِينَة" (رواه البخاري).
إنه أمر نبوي كريم، يدل على خلق كريم، علَّمَه إيَّاه ربُّه -جل جلاله-، وهو القائل: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4].
إنها السَّكِينَة، نعم عباد الله، السَّكِينَة التي تفصل بين الأناة والعَجَلة، السَّكِينَة التي تدفع الفوضى، السَّكِينَة التي تنفي الغضب والعنف وضيق العطن، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد، السَّكِينَة التي تمنح المرء رضًا وتوكُّلًا وانشراحًا وقناعةً بأنه ليس ثمة ما يستدعي العَجَلةَ والإرباكَ، ولا الندم والحزن، فكم كانت الندامة في العجلة، والسلامة في التأني، فإن في السَّكِينَة الخشوع والتواضع والرزانة، وفي العَجَلة القسوة والكبر والطيش.
وإن المرء ما دام ذا روح يتنفس بها فهو يعيش على أمر قد قُدِرَ، تعتريه المنحُ والمحنُ، وأُنْسُه في الحياة ذو فتح وذو إغلاق، ونَسِيمُه لا يهبُّ عليلا على الدوام؛ إذ يخالطه لفحُ السَّموم فيكدِّر شيئًا من صفوه، ويُنبت له منغصات كثيرة يراها في أسرته وصحبه، ومعاشه ومن حوله، ولربما استوحش من نفسه ذاتها فضاقت عليه الوسيعة، وطَوَّق به هاجسُ قلقٍ لا ينفك يُفزع قلبَه، فكان إلى السَّكِينَة والطمأنينة أحوج، ولو علم أن به هناءه ورضاه لَمشى إليهما ولو حَبْوًا؛ فإن السَّكِينَة -عباد الله- ما غَشِيَتْ أحدًا إلا كان آمنًا مطمئنًا حليمًا رضيا، عقلُه يسبق لسانَه، وبذلُه يسبقُ جشعَه، لا ينغصه ماضٍ ولَّى بعُجَره وبُجَرِه، ولا يقلقه مستقبلٌ تكفَّل به خالِقُه، ولا ينظر إلا يومه الذي يعيشه فيجعل أنفاسَه في يومه لابتغاء الدار الآخرة، ولا ينسى نصيبَه من الدنيا، ويُحسن كما أحسَن اللهُ إليه، وما فقَد أحدٌ السَّكِينَةَ إلا اشتمله الهلعُ والضيقُ، والعَجَلةُ والغضبُ والعنفُ، فأودعوا في نفسه حزنا واضطرابا ويأسا يزاحم أنسه واستقراره وفَأْلَه، وتلك صفات ينأى عنها ذوو العقول السليمة والأنفس المطمئنة، فحريٌّ بالمرء أن يأخذ أمور دنياه ببساطة لا بغضاضة، ويغض الطرف عن كل ما من شأنه إذكاء الهم، وإثارة الحزن والغم، إما بالتغافل عنه، وإما بالنظر إلى ما هو أعظم منه؛ ليهون عنده كلُّ ما هو دونَه، فإن الغبي ليس بسيد في قومه، لكن سيد قومه المتغابي.
وإن مما عُلِّمْنَاه من هدي شريعتنا الغراء أن الهم والقلق المفرطينِ خطرٌ على مجموع الأمة وإنتاجها؛ لأن من الخير لكل مجتمع مسلم أن يستقبل يومَه ببشر وفأل وأمل؛ كي يستفيد ذووه من أوقاتهم، ويغتالوا القعود والقنوت قبل أن يُجهِز عليهم؛ إذ لا يُظَنَّ بعاقل أن يزهد في السَّكِينَة والأنس والرضا، والمرء إذا ما غلبته أعراض قاهرة سلبته الطمأنينة والرضا فإنه يجب عليه أن يعجِّل بالتداوي الناجع الذي دلَّ عليه دينُنا الحنيفُ؛ لئلا يستسلم لقوارع الهموم التي تحل العجز والكسل محل الهمة والجد والعمل.
والهموم -وإن كانت شعورا وليست مادة- إلا أنها أشدُّ أثرا من المغريات المادية الحسية، السَّكِينَةُ -عبادَ الله- جندٌ من جنود الله، التي خص بها أتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كُلًّا بحسب متابعته له، وهي سكينة إيمان تَقَرُّ في القلب، فتصد كل ريب وفَرَق وشك، وتكمُن أهميتُها أمام الحادثات والخطوب والْمُدْلَهِمَّات، فإن الله وهبها عباده المؤمنين في مواطن عصيبة كانوا أحوج إليها من الطعام والشراب، (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[الْفَتْحِ: 4].
كيف لا تكون السَّكِينَةُ جُنْدًا من جنود الله وقد وهبَها اللهُ خليلَه إبراهيمَ -عليه السلام-؟ حين خدُّوا له الأخاديدَ وألقَوْه في النار، ووهبها موسى -عليه السلام- وقد غَشِيَه فرعونُ وجنودُه من ورائه، والبحر من أمامه، فقال أصحابه: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 61]، فما كان منه إلا أن قال: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشُّعَرَاءِ: 62]، إنها السَّكِينَة التي وهبَها اللهُ رسولُه -صلى الله عليه وسلم- وقد أطبقت أقدام المشركين على الغار الذي دخلَه هو وصاحبه -رضوان الله عليه-، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)[التَّوْبَةِ: 40].
هذه هي السَّكِينَة يا مَنْ تنشدها وهي ضالَّتُكَ، هذه هي السَّكِينَة يا من أثقله همه، وأضجره غمُّه، هذه هي السَّكِينَة، يا باغي السَّكِينَة، ها قد عرفتها فالزمها، ويا لله كم أحسن من انتهى إلى ما سَمِعَ، والله -جل وعلا- يقول: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)[الْأَنْعَامِ: 90].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الهادي المجتبى.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن المرء إذا وطَّد نفسَه على السَّكِينَة في علاقته بربه ومولاه، فإنه فيما سوى ذلك أحرى وأجدر، وإذا ما استحضر في نفسه على الدوام، أن السَّكِينَة زيادة في الإيمان لم يفرِّط فيها طرفةَ عينٍ، وهو يعلم أن الله قد قال في كتابه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)[الْفَتْحِ: 4]، فحظُّ المرءِ من السَّكِينَة في المضائق بقدر حظه من استذكارها واستحضارها في قلبه؛ فهي مرهونة بصدق قلبه الذي لا يعلمه إلا الله؛ فإنها لا توهَب لقلب مَلِيءٍ بالشكِّ والريبةِ، ولا لقلب خالٍ من اليقين؛ كيف لا والله -جل وعلا- يقول: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[الْفَتْحِ: 18].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السَّكِينَة، وسمعتُه يقول في واقعة عظيمة جرَت له في مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضَعْف القوة، قال: فلمَّا اشتدَّ عليَّ الأمرُ قلتُ لأقاربي ومَنْ حولي: اقرأوا آيات السَّكِينَة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحالُ، وجلستُ وما بي قُلَبَةٌ"، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد جربتُ أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه فرأيتُ لها تأثيرا عظيما في سكونه، وطمأنينته، ولقد صدَق اللهُ عبادَه إذ يقول: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)[الْإِسْرَاءِ: 82].
ثم اعلموا -رعاكم الله- أن مَنْ أراد أن يعرف حظَّه من السَّكِينَة فلينظر إليها في عبادته، فإن وجدها وإلَّا فثمة مفاوز بينه وبينها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا سمعتُهم الإقامةَ فامشُوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تُسْرِعُوا فما أدركتُم فَصَلُّوا وما فاتكم فَأَتِمُّوا" (رواه البخاري) ومسلم.
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأذكى البشرية، محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بقُدْسِه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون- فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضَ الدَّيْنَ عن المدينين، وتقبَّل حجَّ الحُجَّاج والمعتمرينَ يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانتَه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد، يا سميع الدعاء، يا أكرم الأكرمين.
اللهم آتِنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخِرُ دَعْوَانا أن الحمد لله رب العالمين.