الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام - الحكمة وتعليل أفعال الله |
وفى شهر الصيام فرصة للتخفيف من أثقال الأوزار، فيه تطهير للنفوس من الأدران وحماية القلوب من الأدران، وهذه وتلك قد لا يحس بوطأتها إلا من أثقلت نفوسهم المعاصي، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلما حلّ شهر رمضان وصاموا مع تفريطهم وأحسوا بانشراح صدورهم وخفة أرواحهم وانفراج في كربتهم وأنس بدل وحشتهم، وذلك بفعل الصيام، وكذلك تتنـزل الرحمات في رمضان وغير رمضان ..
إخوة الإسلام: وكم هو عظيم شهر الصيام!! وكم فيه من حكم وأسرار يدرك كل صائم منها بحسب علمه وإيمانه وتعبده لمولاه، ويكفيه أنه باب مشرع لكل طرق الخير، من صيام وصلاة وزكاة وصدقة وذكر ودعاء وتلاوة وجود وإحسان وصبر ويقين واحتساب للأجر العظيم، ويكفيه أنه طريق للتقوى، والتقوى جماع الخير وسبيل الفلاح والنجاح: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً) [الطلاق: 2-3]، (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].
كم يكسر باعث الشهوة للنفوس عن السمو!! وشهر الصيام يحطم كبرياء النفس بكسر باعث الشهوة في قلب المعاصي، وهذا كما قال القرطبي -رحمه الله- وجه مجازيّ حسن في تأويل معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
وقيل: لتتقوا المعاصي بالصيام، وقيل: وهو على العموم؛ لأن الصيـام كما ورد جنة ووجاء وسبب تقوى؛ لأنه يميت الشهوات.
أجل، إن الصيام جنة يتقى بها الصائم عن المآثم والسيئات والمهلكات المؤدية إلى النار، كما يتقى المحارب بجُنَّة حين القتال، فيمنعه القتل ويسلمه من العدو بإذن الله.
يجسد هذا المعنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من حديث ويقول: "الصيام جنة؛ فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم". مرتين.
وفي الحديث الآخر يقول -عليه الصلاة والسلام-: "الصيام جُنَّة من النار، كجُنَّة أحدكم من القتال".
وفى الحديث الثالث: "الصيام جُنَّة، وهو حصن من حصون المؤمن".
إخوة الإسلام: وفى شهر الصيام فرصة للتخفيف من أثقال الأوزار، فيه تطهير للنفوس من الأدران وحماية القلوب من الأدران، وهذه وتلك قد لا يحس بوطأتها إلا من أثقلت نفوسهم المعاصي، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلما حلّ شهر رمضان وصاموا مع تفريطهم وأحسوا بانشراح صدورهم وخفة أرواحهم وانفراج في كربتهم وأنس بدل وحشتهم، وذلك بفعل الصيام، وكذلك تتنـزل الرحمات في رمضان وغير رمضان.
فبشراكم -معاشر المسلمين- بشهر الصيام، يرتفع فيه المؤمنون درجات، وتحط به الأوزار عن أهل السيئات.
ولا يزال الصيام بالمسلم يحوطه ويؤنسه حتى يكون شافعًا له لدخول الجنة والنجاة من النار يوم القيامة، وكذلك يفعل القرآن؛ يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب: إني منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، فيشفعان".
أيها المسلمون: ويدرك مَنْ فَقُهَ سِرَّ الصيام كم لرمضان من أثر على تربية النفس وعبودية الجوارح بقية العام، ذلكم لأن شهر رمضان يدرب النفس على كثير من خلال الخير، فتحيا المراقبة لله، ويشيع الصدق في النفوس لصدقها مع الله في الصيام واجتناب الآثام، وتتطبع النفوس بالكرم والجود وهوى الإحسان إلى المحتاجين والبر بالأقربين وتتهذب الأخلاق، فلا تسمع الآذان الحرام، ولا تنطق الألسنة بالفحش والسب ورديء الكلام، وتربى الأعين على عدم استدامة النظر في الحرام.
ذلك كله يهدي العارفين والمدركين لأسباب الصوم أن بإمكان المرء أن يغير من واقعه، وأن الفساد والحرام ليسا ضربة لازب له، وتتحطم أسطورة الشيطان التي يوسوس بها النفوس حين يوحي لأوليائه بنقل الطاعات، وصعوبة ممارسة الخيرات، وعدم القدرة على الانفكاك من أسر الشهوات، وكذلك ينبغي أن يستثمر العاقل هذه التوبة إلى الله، وأن يسارع بتغيير واقعه إلى الأحسن بعد رمضان.
ما أحوج الأمة إلى شهر الصيام!! يأتي ليشعرها بقيمة الوقت وأهمية ملئه بالطاعات، والصائم الفطن يقضي سحابة يومه في الذكر والتلاوة والصلاة والتحسر على الوقت الذي يضيع دونما فائدة، وكذلك ينبغي أن يكون المسلم حريصًا على وقته في رمضان وبعد رمضان، وأن يتخذ من حفظ وقته في رمضان وسيلة لحفظ أوقاته على الدوام.
وما أحوج الأمة إلى شهر الصيام وهو يجمع الكلمة الواحدة، ويوحد الصفوف، ويؤلف القلوب، فيفطر أهل كل قطر في زمان واحد، إنه مذكر بوحدة المسلمين، ودعوة إلى تآخيهم وتوادهم وشيوع المحبة بينهم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة) [الحجرات: 10]، "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وهذه الوحدة تقلق الأعداء، فتراهم يسعون جاهدين لتفريق صف المسلمين، فهل يفقه المسلمون قيمة وحدتهم ويتداعون لجمع كلمتهم، ذلكم جزء من أسرار شهر الصيام، وما يعقلها إلا العالمون.
أيها الصائمون: وشهر الصيام فرصة لمزيد من الاهتمام بتربية الأهل والأولاد على البر والإحسان والتقوى، فحثهم على الصلوات وترغيبهم في الصدقات وتدريبهم على الصيام وتشجيعهم على كثرة الذكر وتلاوة القران وسائر الطاعات، كل ذلك يسير في التربية الواجبة في كل حال؛ لأن النفوس لديها استعداد في رمضان أكثر من غيره من مواسم البر ومواطن الدعاء وقيام الليل والاستغفار بالأسحار ما قد لا يتوفر مثله في سائر الأزمان.
والأب الناصح هو الذي يستثمر الفرص ويذكر بفضلها، والأم الحانية هي التي تشجع على الخير، وتآزر الأب في تربية الأبناء، وإذا وقع في أذهان البعض أن الأبوين المثاليين هما من يوفران للأبناء ما يحتاج إليه أبناؤهم فذلك غير صحيح، فالأبوة المثالية تتحقق في تربيتهم وحثهم على الخير، خاصة في هذه الأيام الفاضلة، هو نوع من الغفلة لا تليق، ونتيجته الخسارة لا في الدنيا فحسب بل وفي الدين.
فانتبهوا لتربية أبنائكم على الدوام، خصوصًا في هذا الشهر، بمزيد من العناية والاهتمام، فذلك جزء من واجبكم في وقايتهم من النار؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6].
وفي صلاحهم وتوجيههم نفع لكم في الحياة، وحين ترحلون إلى الدار الأخرى، فابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: الولد الصالح الذي يدعو له، وكم هي مأساة أن ترى الآباء والأمهات في أيام رمضان مع القائمين والراكعين الساجدين، وأبناؤهم يسرحون ويمرحون، وربما حصلت منهم الأذية للمصلين، أو ربما عكفوا وعكفت البنات معهم على مشاهدة ما لا يحل، أو سماع ما حرم الله، والزمان زمان رحمة، الأيام فاضلة، والدعوة مستجابة، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه، ومن أساء فعليها.
اللهم ألهمنا رشدنا واهدنا واهد بنا، وتقبل صيامنا وقيامنا، واشرح صدورنا للخير والإيمان، ونوِّر قلوبنا بالقرآن.
الخطبة الثانية:
إخوة الإيمان: وشهر الصيام شهر المواساة، ألا ترون الناس أجمع، غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، يمسكون عن الطعام والشراب وسائر المباحات مع توفرها عند قوم وندرتها عند آخرين، أفلا يوحي ذلك للقادرين أن بإمكانهم أن يتنازلوا عن بعض ما يملكون إلى غيرها من المحتاجين.
ولئن نسي المنعمون -أو غلفوا- عن حوائج المحتاجين طوال العام -وما كان لهم أن ينسوها- فشهر الصيام في كثرة إطعام الطعام وإفطار الصائمين، وكم هو مشهد إيماني محبب للنفس هذه الاجتماعات الجماعية على الإفطار.
وهذه المشروعات الخيرة -بإذن الله- لإطعام الصائمين، تلك التي تنتشر في المساجد أو خارج المساجد، فيشعر المسلم بقرب أخيه منه وحنانه والتآلف والتواضع والصلة والإحسان، وتزداد عظمة المشهد كلما زادت مساحة التجمع وكثر المحتاجون، وتبلغ قمتها في المسجد الحرام بمكة أو في المسجد النبوي في المدينة.
ومن مظاهر المواساة -في شهر رمضان- قضاء الدين عن المدينين، وفك الرقاب على الغارمين، وتفريج الكربات للمعسرين، وشهر الصيام يقوِّي عزائم هؤلاء وأولئك؛ ليهيموا على وجوههم بحثًا عن أهل الخير لسد حاجتهم، وعلى الموسرين أن تطيب نفوسهم بما يجودون به لهؤلاء من صدقات، فضلاً عن دفعهم للزكاة الواجبة، ولا ضير في التحري والدقة والسؤال والمعرفة، ولا سيما في أهل الزكاة والمستحقين لها.
وشهر رمضان فرصة للمواساة مع شعوب العالم الإسلامي، تلك التي أثخنتها الجراح، وعزَّ فيها الطعام، أو قلَّ فيها الكساء، أو توفر لهم الشراب أو الدواء، كل ذلك حتى تغزوهم بالأفكار، وتقدم لهم المبادئ الكافرة، وتصرفهم عن الإسلام الحق.
أوليس في غفلة المسلمين عن إخوانهم فرصة لنجاح مهمة هؤلاء الأبالسة الماكرين؟! أولسنا جميعا نتحمل مسؤولية أي انحراف يقع نتيجة تراجعنا عن المساعدات الواجبة وتقدم غيرنا؟!
أما من يتضور جوعًا أو يتقلب في قمم الجبال الباردة ولا يتوفر عنده ما يقيه شدة البرد، فتلك مسؤولية أخرى يتحملها المسلمون بإزاء إخوانهم المسلمين.
يا إخوة الإسلام: إذا توفرت لكم المعلومات عن حاجة هذه الشعوب المسلمة، وتوفرت لكم الأيدي والجمعيات الإسلامية والهيئات الموثوقة التي توصل هذه الصدقات إلى محتاجيها، فأي عذر لكم في الإحجام عن المساعدة؟! أولستم في شهر الصيام تتذكرون حاجة النفس إلى الطعام حين صومكم وقرقعة بطونكم؟! وتتذكرون حاجتها إلى الشرب حين يبس الشفاه وشدة العطش؟! فتتسلون بقرب الإفطار وتوفره، فتذكروا حاجة هؤلاء المحتاجين لا في رمضان فحسب، وتذكروا أن هؤلاء منتظرون مدد السماء وإعانات المحسنين وأهل البر والوفاء.
أولستم في فصول الشتاء تبحثون عن الفرش الوثيرة لتحتموا بها من لسع البرد القارص؟! فتذكروا من يشعرون بشعوركم ويحتاجون لحاجتكم أو أشد لكنهم لا يملكون ما به يتدثرون، وينتظرون العون ممن أفاء الله عليهم وفتح عليهم ما لم يفتح على غيرهم.
شهر الصيام جدير بتذكيرنا بهذه المعاني وأكثر لمن تأمل وتدبر، أما الذين ينتهي تفكيرهم في الصيام عند الإمساك عند الفجر، والإفطار عند تحقق الغروب دون إحساس بالحكمة والسر العظيم من وراء ذلك، فما فقه هؤلاء حكمة الصيام، وما بالله حاجة أن يدع المرء طعامه وشرابه دون أن يورثه ذلك تقوى تدعوه لفعل الخيرات وتنأى به عن المحرمات، وتهذب نفسه وترقق مشاعره وتخفف من حدة الشح أو البخل المصاحبة للنفوس في غياب التقوى.