اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | عبد القادر بن رحال |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام - الحكمة وتعليل أفعال الله |
وهناك صائمون ولكن يلعبون القمار وينظرون إلى ما حرّم الله، وصائمون ولكن يغتابون الناس ويشعلون الفتن، وصائمون ولكن يغشون في البيع ولا ينصحون في وظائفهم ويأكلون الربا والرشوة، وصائمون ويقضون ليلهم باللهو والغناء الفاحش وبالنهار نائمون. والحق يقال: إن صيام رمضان مدرسة متميزة يفتحها الإسلام كل عام للتربية العملية ليعلم الناس القيم وأرفع المعاني، فمن اغتنم الفرصة وصام كما أمر الله وشرع فقد نجح في الامتحان، ومن...
الخطبة الأولى:
أما بعد: يقول ربكم في كتابه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 183، 184]. قال الإمام ابن كثير: "يقول تعالى مخاطباً المؤمنين من هذه الأمة وآمراً لهم بالصيام، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنيّة خالصة لله -عز وجل- لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة" أ.هـ. فهل حققنا -معاشر المسلمين- هذه الثمرات في نفوسنا بعدما انقضى رمضان؟ ولا ندري أيعيش إلى قابل، فنستدرك ما ضيعناه في هذا الشهر الكريم أم لا؟!.
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" [رواه الشيخان]. وفي رواية صحيحة: "ما تأخر من ذنبه". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" [رواه البخاري].
أيها المسلمون: إن المسلم الحاذق هو الذي ينظر في حقائق وأسرار وحكم العبادات، ولا ينظر فقط إلى رسومها وحركاتها، فمن الناس من تراه يجهد نفسه في عبادات متنوعة، وليس له منها إلا التعب، لأنه نظر إلى رسوم العبادات ولم ينظر إلى حقائقها ونتائجها التي تعبر بحق عن حقيقية الدين قال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [الحج: 37]، إن هذه الشريعة جاءت بحكم وأسرار عظيمة لأنها ببساطة صدرت من إله حكيم خبير لطيف، فشرائعه تعالى وأحكامه مبنية على علل وحكم وأسرار، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وفوق كل ذي علم عليم، فها هو التوحيد الذي هو قطب رحى هذا الدين وأساسه الذي بني عليه؟ قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85], وقال كذلك: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد: 19], وقال كذلك: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الزمر: 64 - 66].
ليس التوحيد فقط كلمات تردد باللسان، وإنما هو حياة مبنية على كلمة التوحيد، فلا يتحرك المسلم ولا يسكن إلا في إطار التوحيد كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163]، فالتوحيد جاء لتحرير الإنسان كل الإنسان من عبودية غير الله لعبودية الله وحده، فالإنسان الحر المتحضر الطليق هو من يعبد الله وحده لا شريك له، وأما الإنسان العبد الخسيس فهو من ترك عبادة الله وعبد غيره من شهوات وهوى وبدع وتقليد للآباء والأعراف الخارجة عن شريعة الله تعالى، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) [لقمان: 21].
وها هي الصلاة عمود الدين، فهل حققنا آثارها في حياتنا؟ هي صلة بين العبد وربه، ليست كلمات ولا حركات جوفاء، بل هي خشوع لله رب العالمين وقرب منه -سبحانه وتعالى-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".
والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فهل انتهينا عن ذلك، والصلاة تنهى عن الأخلاق الفاسدة والحيوانية قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [العنكبوت: 45] وقال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج: 19 - 23].
وها هو الصوم من أعظم أسراره تقوى الله تعالى، وها هي الزكاة جاءت لتطهر صاحبها من البخل والشح الذي أهلك الأمم من قبلنا، والزكاة تبارك في المال وتزيد فيه قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) [التوبة: 103] ، وقال كذلك: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) [سبأ: 39], والزكاة ترجمة عملية على التعاون بين المسلمين وسد حاجات الفقراء.
وها هو الحج عبادة فرضها الله مرة في العمر على من استطاع إلى ذلك سبيلاً، فالحج ليس فقط سياحة أو تجارة، ولكنه قدوم على الرحمن ليغفر الذنوب ويستر العيوب؟ إن الحج تذكير بالموقف الكبير في المحشر يوم القيامة, إن الحج موعد لاجتماع المسلمين عربهم وعجمهم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم, قد أتوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله تعالى شكراً على نعمه.
هذا وكل أحكام الإسلام أنزلها الله لحكم وأسرار من أهمها أنها جاءت لجلب المصالح ودفع المفاسد, قال العزّ بن عبد السلام: "الشريعة كلها مصالح إما دفع مفاسد أو جلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فتأمل وصيته بعد ندائه فلا يجد إلا خيراً يحثك عليه أو شراً يزجرك عنه" أهـ . قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف: 56].
أيها المسلمون: إن شهر رمضان شهر التقوى والبركات الألهية فهل حققنا ثمراته الزكية وفوائده الجلية، إن شهر رمضان نفعله يعود على صاحبه، فلا يعود على الله في شيء، فالله غني حميد، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر: 15 - 17].
إن فوائد وأسرار رمضان كثيرة منها:
1- تزكية النفوس بطاعة الله، وتدريب النفوس على العبودية لله والصبر عليها قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه من أجلي, كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به" [متفق عليه].
2- إن الصوم فيه إعلاءٌ ورفع للجانب الروحي المهم في الإنسان، فالإنسان ليس مادة فقط بل هو روح كذلك، فالصوم يعزز هذا الجانب فيجعله في الملكوت العلوي قريباً من مرتبة الملائكة وصدق من قال:
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته | أتطلب الربح مما فيه خسران |
أقبل على الروح واستكمل فضائلها | فأنت بالروح لا بالجسم إنسان |
3- إن الصوم يعلم الإخلاص لصاحبه فهو شهر الإخلاص، لأن الصائم يمكنه أن يفطر خفية عن الناس ولكنه يمنعه إخلاصه لله تعالى، والصوم يعلم الصبر، والصبر بمنزلة الرأس من الجسد، فهو قاعدة التكاليف ولولا الصبر ما شرع الصوم ولا شرع الجهاد في سبيل الله، ولهذا أجر الصابر والصائم بغير حساب قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
4- إن الصوم جاء ليكسر الشهوة الجنسية التي هي أخطر الغرائز في الإنسان إذا لم تنظّم وفق الفطرة الإسلامية، فإن هذه الغريزة هدمت أمماً بأكملها وتهدم آخرين، واسألوا التاريخ واعتبروا يا أولي الأبصار.
ونحن نتعجب كل العجب فالإسلام جاء ينظم هذه الغريزة ويهذبها ويضع لها حدوداً، أما هذه الحضارة الغربية الساقطة فأعطتها كل الحرية وقدستها بحجة أن الإنسان خلق حراً. لابد أن يستجيب لكل غريزة فيه استجابة بيولوجية، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض البصر وأحصن الفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" [رواه البخاري ومسلم].
5- وللصوم ثمرة اجتماعية هي التكافل والشعور بالوحدة لأن الصوم يسوي بين الحاكم والمحكوم والغنى والفقر والقوي والضعيف في الشعور بأنهم على صفة واحدة توجب عليهم التعاون على الخير.
6- إن من أعظم فوائد الصوم تقوى الله تعالى، فله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة من الآثام.
لكن -أيها المسلمون- هل حققنا هذه الفوائد في نفوسنا وأسرنا ومجتمعنا في رمضان وما بعد رمضان؟ أم نافقنا وصرنا أصحاب مناسبات ورسوم وحفلات؟ فهناك صائمون ولكن يقلدون أهل الكتاب في أعيادهم, والله عزم علينا ألا نتشبه بهم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [المائدة: 51] وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "من تشبه بقوم فهو منهم" [رواه أحمد]. وهناك صائمون ولكن يلعبون القمار وينظرون إلى ما حرّم الله، وصائمون ولكن يغتابون الناس ويشعلون الفتن، وصائمون ولكن يغشون في البيع ولا ينصحون في وظائفهم ويأكلون الربا والرشوة، وصائمون ويقضون ليلهم باللهو والغناء الفاحش وبالنهار نائمون.
والحق يقال: إن صيام رمضان مدرسة متميزة يفتحها الإسلام كل عام للتربية العملية ليعلم الناس القيم وأرفع المعاني، فمن اغتنم الفرصة وصام كما أمر الله وشرع فقد نجح في الامتحان، ومن تكاسل وخالف فهو الخاسر ولا يضر الله شيئا، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" [البخاري]. وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ليس الصوم من الشراب والطعام وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو".
وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأتم، ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء".