المهيمن
كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
هو رَأْسٌ إذا عدُّ العُظَماء، وخَيْرُ مَنْ وَطِئَ الثَّرى بعدَ الأَنْبياءِ. هو شامةُ خَيْرِ القُرُون، وهو القَمَرُ إذا عُدَّ المبرَّزُون.. ثَبَّتَ اللهُ به الأمةَ بعد وفاة نَبِيِّها، وحَفِظَ اللهُ به الدِّيْنَ بعدَ أنْ عَصِفَت الرِّدَّةُ عَصْفَتَها. حَسْبُكَ بهِ فَخْراً أنَّه ثَانيَ اثْنين في الغار....
الخطبة الأولى:
إخوة الإيمان:
الحديثُ عن سِيَرِ العُظُماءِ حَدِيثٌ جَذَّابٌ، ومجلس تَهْفُو له القُلوبُ وَيَأْسِرُ الأَلْبَاب.
هو رَأْسٌ إذا عدُّ العُظَماء، وخَيْرُ مَنْ وَطِئَ الثَّرى بعدَ الأَنْبياءِ. هو شامةُ خَيْرِ القُرُون، وهو القَمَرُ إذا عُدَّ المبرَّزُون.
كانَ يَسْمَعُ للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيقولُ بلا تَرَدُّدٍ أوْ تَلَعْثُمٍ: "صَدَقْتَ، صَدَقْتَ".
ثَبَّتَ اللهُ به الأمةَ بعد وفاة نَبِيِّها، وحَفِظَ اللهُ به الدِّيْنَ بعدَ أنْ عَصِفَت الرِّدَّةُ عَصْفَتَها.
حَسْبُكَ بهِ فَخْرَاً أنَّه ثَانيَ اثْنين في الغار، ويَكْفِيْهِ وِسَامَاً ثَنَاءُ الملكِ العظيمِ الجبَّارِ؛ (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[الزمر:33].
عُذْراً عُذْراً فالمقامُ لا يَسَعُ لِسِيرةِ أَبي بَكَرٍ وَفَضْلِهِ، والكلماتُ مَهْما بلغتْ تَقْصُرُ عن وَصْفِ خَشْيَتِهِ وزُهْدِه وعدلِهِ، وإنما حَسْبُنا أنْ نَقْتَرِبَ مِنْ صَفْحَةٍ واحدةٍ مِنْ حياةِ أبي بكر.
صفحةٍ لم يَنْفَرِدْ بها الصدِّيقُ عن بقيةِ الأصحابِ، لكنَّه قطعاً سَبَقَ فيها كلَّ الأَحْبابِ، فهو حَامِلُ الرَّايةِ في هذا البابِ، وخَبَرُهُ في هذا قَدْ جَمُلَ وطَابَ.
إنها صفحةُ المحبَّةِ، وما أدراك عن تلكم المحبَّة؟!
محبةٌ صادقةٌ خالصةٌ، عميقة دفَّاقةٌ غائرة، تَنَفَّسَ بها أبوبكر، وتحرَّكتْ في نَفْسِهِ، كما يتحرَّكُ الدمُ في ورِيْدِهِ.
الحديثُ عن حُبِّ الصدِّيقِ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَبْدَأُ ولا يَنْتَهِي، ولكنَّ مشهداً واحداً فقط، يَنْطِقُ لنا حَجْمَ هذه المحبةِ البَكْرِيَّةِ التي وَجَدَها تُجاهَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
فيا أَخي الكريم، تَصَوَّر معنا فُصُولَ هذا المشهد بفكرك، وَتَأَمَّلْ حَلَقَاتِهِ بِوِجْدَانِكَ، وَسَرِّحْ مَعَهُ مَا شِئْتَ مِنْ خَيَالِكَ، فأنتَ أمامَ مَشْهَدٍ مِنَ الحُبِّ الصادق، لمْ ولنْ تَجِدَ مثلَهُ في تَصْوِيْرَاتِ الرِّواياتِ الخيالية.
ها هو الصديقُ أبو بكر -رضي الله عنه- تَجُرُّه رِجْلَاه، نَحْوَ بيتِ الله، لِيَطَّوَّفَ بالبيت العتيق، وليرويَ نفسَهُ المتعطشةُ للعبوديةِ في زمنِ الاستضعافِ والبلاءِ العميق.
وَمَا إِنْ بَدَتْ له الكعبةُ، وتَرَاءت له محيطُها، إذا به يَرى تجمعا، وأصواتاً واعتراكاً، فَخَفَقَ قلبُه ألا يكونَ أحدٌ من المسلمين يُصاب الآن بسوءٍ وأَذَى من طغاةِ قريش.
أَسْرَعَتْ خُطُواتِه نَحْوَ المكانِ، وإذا هو يُفَجع بعصابة من عبدة الأحجار، يُحيطون بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عند الحِجْر، وكأَنَّما هم أَكَلَةٌ تَدَاعَتْ إلى قَصْعَتِها، وإذا أشقَاهُم وهو عقبةُ بنُ أبي مُعَيْطٍ قد وضَعَ ثَوبَهُ على عُنُقِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهُو يُصلي، وَجَعَلَ يَخْنُقُه بِهِ خَنْقَاً شديداً، والنَّاس تَصِيْحُ مِنْ حولِه وَتُعَاوِنُ.
وفي رواية: أنَّهم ضربوه -عليه الصلاة والسلام- حتى غُشِيَ عليه، وذلك بعدَ ثلاثة أيامٍ من وفاةِ عمِّهِ أبي طالب الذي يَحْميه.
لم يَتَحَمَّلْ الصدِّيْقُ وهو يَرَى حبيبَهُ وجُمَّارةَ قلبِهِ يُفعل به هذا.
تألَّمَ الصدِّيقُ؛ أن يرى الرجلَ الذي كادتْ أنْ تَذهبَ نفسه حَسَراتٍ، على إعراض قومه، فكيف يُجازى بمثل هذا.
فتقدم الصدِّيْقُ مسرعاً، وعليه غدائِرُ أربع، وهو يَصيحُ فيهم: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)[غافر:28]، ثم انطلقَ إلى عقبةَ، وقد تمكَّنَ من عُنُقِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فأخذ منكبَهُ، وجرَّه وأبعده عن رسول الله، ولسان حاله:
فِدَاكَ الكون يا عَطِرَ السجايا | فما للناسِ دونَكَ من زكاةِ |
فأنتَ قداسةٌ إذا استُحِلَّتْ | فذاكَ الموتُ من قَبْلِ المماتِ |
فقالت قريش: هذا ابنُ أبي قحافةَ المجنون.
لم يَنْسَ المشركون هذا الموقف من أبي بكر، فامتلأت قلوبهم حنقاً وغيظاً منه، ولم ينس الصديقُ أيضاً هذا الموقف المؤلم، فجعلَ يُلِحُّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُظْهِرَ دعوتَه؛ فأذن له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ تردُّد.
فخرج أبو بكر مع عددٍ من المسلمين حول البيت، فقام فيهم خطيباً، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم، فهَاجَ المشركون، وثاروا على المسلمين، فضربُوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً وأوجعوهم.
وأقبلت طائفةٌ من المشركين على أبي بكر، فضربوه، وأسقطوه، وبالأرجل دهسوه، ودنا منه المشرك الفاسق عُتْبَةُ بنُ رَبِيْعَة فجعل يَضْرِبُهُ بنعلين مخصوفتين -أي مخروزة-، وجعل يُحَرِّفْهُما إلى وجهه، وهو نازل على بطن أبي بكر، حتى صار لا يُعرفُ وجه أبي بكر من أنفه، لكثرة الدم، وقد قد سقط مغشيِّاً عليه.
وطارَ الخبَرُ إلى بَنِيْ تَيْم، قبيلةِ أبي بكر، فجاءوا يَتَعَادَوْنَ، وهم مُشْرِكُون، فأَجْلَوا المشركينَ عن أبي بكر، وحَمَلَتْ بَنُو تَيْمٍ أبا بكر في ثوب، لا يَلْمِسُونَ شَيْئَاً مِنْ غَدَائِرِه إلا رَجَعَ معه. -أي: تَسَاقَطَ شَعْرُهُ من كَثْرَةِ وشدَّةِ الجَّذْبِ-.
حتى أدخلوهُ مَنْزِلَهُ، وهم لا يَشُكُّونَ في موتِه، ثم رجع بنو تيم إلى المسجد، وقد بَلَغَ بهم الحَنَقُ منتهاه، فقالوا للناس: "والله لئن مات أبو بكر لنقتلنَّ عتبةَ بَنَ رَبِيعة".
ثم رجعوا إلى أبي بكر في بيته، فجعل أبو قحافة والدُه وبنو تيم يُكلِّمُون أبا بكر ولا يُجيب، حتى أجابَ فتكلم آخِرَ النَّهار، وهو على حال لا يعلمها إلا الله.
فماذا قال الصديق، ماذا تكلم، وعن أي شيءٍ سأل؟
قال: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ نسيَ نفسَه، ونَسِيَ كلَّ شيءٍ ولم يتذكرْ إلا حبيبَه -صلى الله عليه وسلم-.
فنال بنو تَيْم من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بألسنتهم وعَذَلُوه، ثم قاموا، وقالوا لأمِّ أبي بكر وكانت مشركه: انظري إلى حاله وأطعميه شيئًا أو اسقيه.
فلما خلت به ألحت عليه أن يأكل، وهو يأبى ويقول: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فقالت أمُّه: والله مالي علم بصاحبك، فقال: -رضي الله عنه- والآلام تَغْمُرُه، والقَلَقُ يلفُّه: اذهبي إلى أمِّ جَميل بنتِ الخطاب، أختَ عمر، فاسأليها عنه، وكانت ممن أسلم قديماً، وهي زوجة سعيد بن زيد.
فخرجت أمُّ الصديق، حتى جاءت أم جَميل، فقالت: إن أبا بكر يسألكِ عن محمدِ بنِ عبد الله، فقالت وهي خائفة: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله.
فطلبت منها أن تأتي معها، فقامت أمُّ جَميل معها إلى أبي بكر، فوجدته على فراشه كأنما يصارع الموت، فصاحت أم جميل، وقالت: والله، إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.
سمع الصديق صوت أم جميل، فبادرها بالسؤال: ما فعل رسول الله.
فقالت: هذه أمك تسمع! قال: فلا شيء عين عليك منها. -أي: أنها لن تفشي سرها-، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم.
فقال أبو بكر: "ولله لا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
حتى إذا سَكَنَ الناسُ بعد هذه الحادثة وخَفَّت الأَرْجُلُ، خرجتا به، يتكئ على أمه من التعب، حتى أدخلتاه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه الحال فرقَّ له رَقَّة شديدة، وأَكَبَّ عليه يُعَانِقُهُ ويُقَبِّلُهُ، وهو يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي".
تَحْدُث هذه الآلام، وتحينُ تِلْكُمُ الأوجاع، والحبُّ باقٍ لم يتغيرْ ولم يتبدَّل، وآياتُ القرآن تواسي وتتنزَّل: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إبراهيم:42].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، وبَعْدَ هذا المشْهَدِ المعبِّرِ نَسُوقُ لكم، مَقاطِعَ مختصَرَةٌ من صدق محبة الصديقِ للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
ما ظنّكم بحبّ رجل أصابه العطش الشديد يوم الهجرة، فجاء بمذقة لبن، -أي: ممزوج بالماء-، فلم يشرب منه، وإنما ناولها للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقال له: اشرب يا رسول الله، يقول أبوبكر: فشرب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى رضيت؛ -أي: طابت نفسي لكثرة ما شرب-.
وفي طريق الهجرة، وحين انتهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر إلى الغار ليلاً، دخل أبو بكر قبله، فجعل يتحسس الغار ويفتّشهُ، لئلا يكون فيه شيء من السباع والهوام والقوارص، وبدأ يقطع من ثوبه ويسد الثقوب، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: أقطعت ثيابك يا أبا بكر؟ قال: "أخاف من شيء يؤذيك يا رسول الله".
يقول عمر: "والذي نفسي بيده، لتلك الليلة خير من آل عمر".
أما في يوم فتح مكة فقد أسلم أبو قحافة والدُ أبي بكر، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فأخذه أبو بكر وذهب به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليعلن إسلامه وبيعته، فلما أعلن إسلامه بكى أبو بكر، فسألوه: هذا يوم فرحة، فما الذي يبكيك؟ فقال أبو بكر: لأني كنت أحب أن الذي بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- الآن ليس أبي ولكن أبو طالب؛ لأن ذلك كان سيسعد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أكثر.
وروى البزار عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَخْبِرُونِي بِأَشْجَعِ النَّاسِ؟ قَالُوا: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: أَمَا إِنِّي مَا بَارَزْتُ أَحَدًا إِلاَّ انْتَصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَخْبِرُونِي بِأَشْجَعِ النَّاسِ؟ قَالُوا: لاَ نَعْلَمُ، فَمَنْ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-؛ إنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَرِيشًا فَقُلْنَا: مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلاً؟ فَوَاللَّهِ، مَا دَنَا مِنْهُ إِلاَّ أَبُو بَكْرٍ شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلاَّ أَهْوَى عَلَيْهِ، فَهَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْهَدُ أَنَّا نُحِبُّ مُحَمَّدًا وخليله الصادق الصديق، فَاللَّهُمَّ احْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا بِهِمْ فِي جَنَّتِكَ وَرَحْمَتِكَ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
صَلُّوا -رَحِمَكُمْ الله- عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ.