اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - الإيمان بالله |
إن تعظيم الرب -تعالى- وتمجيده مستلزم لتعظيم أحكامه، ونصوص شرعه من القرآن والسنة، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "أول مراتب تعظيم الحق -عز وجل- تعظيم أمره ونهيه، وذلك؛ لأن المؤمن يعرف ربه -عز وجل- برسالته التي …
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن الله -عز وجل- لما منّ علينا بأن هدانا للإسلام خاتم الشرائع وأفضلها، وأرسل إلينا أفضل رسله وخاتمهم، وأنزل علينا أكمل كتبه وأشرفها.. جعل الاستسلام والانقياد لشرعه، والطاعة له مناط القبول والرضا؛ ولذا فمن لم يستسلم لله، وينقد إليه بالطاعة، ويتخلص من الشرك فليس بمسلم.
ولما كان في نصوص الشريعة وأحكامها ما يخالف شهوات بعض الناس وشبهاتهم كان تلقيهم لتلك النصوص والأحكام مصحوباً بنوع من التردد والتقاعس، مع التثاقل والحرج في صدورهم، هذا إن لم يدفعوا تلك الأحكام الشرعية بالكلية، أو يتعسفوا بتأويل نصوص الشرع، والتحايل عليها في سبيل تحقيق شبهاتهم وشهواتهم.
وهذا المزلق الخطير لا يُستغرب حين يصدر ممن ليس لهم حظ في الإسلام من اليهود والنصارى وأشياعهم؛ فهم كما قال الله: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء)[النساء:89].
ولكن الغريب في ذلك أن ينزلق في هذا المسلك الخطير بعض المسلمين، ممن فرحوا بما عندهم من العلم الدنيوي؛ فأخذوا يزِنون النصوص الشرعية بميزان عقولهم؛ فما وافق عقولهم قبلوه، وما لم يوافقها أولوه وحرفوه بما يوافق الهوى؛ فجعلوا عقولهم حاكمة مهيمنة على الشرع؛ فلم يعد لهذه النصوص الشرعية في قلوبهم تعظيما أو تقديساً أو انقياداً.
عباد الله: إن تعظيم الرب -تعالى- وتمجيده مستلزم لتعظيم أحكامه، ونصوص شرعه من القرآن والسنة، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "أول مراتب تعظيم الحق -عز وجل- تعظيم أمره ونهيه، وذلك؛ لأن المؤمن يعرف ربه -عز وجل- برسالته التي أرسل بها رسول الله إلى كافة الناس ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله -عز وجل- واتباعه وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة، والبراءة من النفاق الأكبر".
أيها المؤمنون: إن لتعظيم النصوص الشرعية من القرآن والسنة دلالات وعلامات؛ من افتقدها فهو على خطر عظيم؛ فمن علامات تعظيم النصوص الشرعية:
عدم الاختيار، أو المشورة في قبول حكم الله -تعالى-، بل التسليم الكامل المطلق دون تردد، أو شك: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)[الأحزاب:36].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "فهذه الآية عامة في جميع الأمور؛ ذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحدٍ مخالفته، ولا اختيار لأحدها هاهنا ولا رأي ولا قول".
ومن علامات تعظيم النصوص الشرعية: عدم وجود الحرج عند سماع النص الشرعي، ويتأكد هذا عند تطبيقه، قال -تعالى-: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)[النساء: 65]؛ فدلت الآية على وجوب الانقياد لحكم الله ظاهراً وباطناً برحابة صدر وطمأنينة نفس.
ومن العلامات أيضا: عدم التنطع في البحث عن الحكمة، أو العلم والتعمق في ذلك؛ فتلك الصفة تنافي كمال التسليم والانقياد لله، بل قد يستمرئ صاحبها ذلك فتجره إلى الاعتراض على بعض الأحكام الشرعية، إلا حين يعلم الحكمة منها؛ فالواجب على المسلم الإمساك والتأدب مع مقام التشريع؛ فالله -عز وجل-: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الأنبياء: 23].
ومع هذا لا مانع من السؤال والاستئناس بطلب الحكمة من الحكم الشرعي إن أمكن ظهورها مع الرضا والقبول التام أولاً.
قال بعض أهل العلم: "اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله -سبحانه- عن أمة نبي صدقت بنبيها، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها، وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك".
ومن علامات تعظيم النصوص الشرعية: الغضب لله -تعالى- إذا انتهكت محارم الله، ومحاولة التغيير ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلاً؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها"(أخرجه البخاري).
فمتى كان العبد غيوراً على محارم الله مسارعاً إلى إنكارها، وإصلاح أهلها كان ذلك دليلاً على تعظيمه للنصوص الشرعية، ومراعاة حدودها وآدابها.
ومن علامات تعظيم النصوص الشرعية: أن يمسك عما ليس له به علم، وأن يحذر من الخوض في ذلك، وأن يجعل نصب عينيه قوله -تعالى-: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء:36].
فالخوض في معاني كلام الله وكلام رسوله دون دراية، أو سؤال، من القول على الله بلا علم، وهذا من الذنب العظيم، فضلاً عما يجره من المفاسد، من ضلال الآخرين وإضلالهم.
وإنه لمن المؤسف أن يجعل كلام الله وكلام رسوله، وأحكام الشرع المطهر ميداناً للحوار والنقاش والجدل من أناس ليس لهم حظ من العلم الشرعي وأحياناً من العقل، فيحصل في هذه الحوارات من السفه والتأويل والتحريف للنصوص الشرعية مما يضعف تعظيمها والانقياد لها في نفوس من يستمع إلى مثل هذه الحوارات في مجالس الناس، أو فيما يبث في الفضائيات؛ فيستسهل الناس الأمر، ويتعودوا القول على الله بغير علم، وكأن ما يطرح في الحوار قضية سياسية أو أدبية.
بارك الله لي ولكم بالقرآن الكريم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده..
عباد الله: لقد ضرب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة وأصدقها في المبادرة والمساعدة لامتثال أمر الله ورسوله، وتعظيم نصوص الشرع، والوقوف عندها، والغضب عند مخالفتها وانتهاكها.
وحرصهم هذا وتعظيمهم ليس مقصوراً على ما كان واجباً فحسب، بل تعدى ذلك إلى المستحبات، ويكفيهم شرفاً وفخراً تزكية الله لهم، وثناؤه عليهم.
وما ورد عن الصحابة -رضي الله عنهم- في هذا الشأن كثير يصعب حصره؛ فمن ذلك ما ورد عن أبي بكر الصديق إذ لما برأ الله عائشة -رضي الله عنها- من خبر الإفك، قال أبو بكر: "والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا"، وكان ممن وقع في شأن عائشة، وكان أبو بكر ينفق عليه قبل ذلك، فلما نزل قوله -تعالى-: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النــور:22]. قال أبو بكر: "بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي، فأرجع إلى مسطح النفقة، وقال والله لا أنزعها أبداً"(متفق عليه).
وجاء في شأن عمر الفاروق من ذلك الكثير؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان الحر من النفر الذين يدنيهم عمر، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، فأذن له عمر، فلما دخل عليه، قال عيينة: هيه يا ابن الخطاب؛ فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله -تعالى- قال لنبيه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199]. وإن هذا من الجاهلين، قال ابن عباس: "والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله".
ومن تعظيم الفاروق لشأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره؛ ما أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن: "أنه قلع ميزاباً للعباس على ممر الناس، فقال له العباس: أشهد أن رسول الله هو الذي وضعه في مكانه، فأقسم عمر: لتصعدن على ظهري ولتضعنه في موضعه".
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "إن عبد الله بن رواحة أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب فسمعه، يقول: اجلسوا، فجلس ابن رواحة مكانه خارج المسجد حتى فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من خطبته، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله"(أخرجه البيهقي).
وأمثلة ذلك مما جاء عن الصحابة -رضي الله عنهم- كثيرة جداً، وعلى نهجهم سار أتباعهم، ومن تبعهم من أئمة السلف، إلى زماننا هذا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[النــور:51-52].
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].